اخبار اقليميهالرئيسية

لا بواكي لفلسطينيي العراق

عبد اللطيف السعدون

فلسطينيو العراق الذين تجاوزت أعدادهم يوما ما عشرات الألوف لا بواكي لهم اليوم. لا أحد يذكرهم بالخير، كانوا يتقاسمون العيش مع أشقائهم العراقيين منذ عهود الملوك وحتى الجمهوريات المتعاقبة في صفاء ودعةٍ وأمان، لكن عددهم اليوم لا يتجاوز الثمانية آلاف في أكثر تقدير.
أين حطّ الرحال بالآخرين؟ وكيف حدث ذلك؟ ما تنقله تقارير موثقة، ويرويه شهود عارفون يكشف أن تيها آخر فرضته أقدار غاشمة، لم يستطع هؤلاء الفلسطينيون الفكاك منها أو ردّها، لكأنما كُتب عليهم أن يعيشوا تيها إثر تيه، وأن يتنقلوا بين حريق وحريق، وأن تنالهم، من دون ذنبٍ جنوه، مقتلة وحشية، تارّة على يد الأعداء التاريخيين، وأخرى على يد “الإخوة الأعداء”!
ما سجلته هذه التقارير وتلك الروايات يفصح عما كابدته وتكابده هذه الشريحة الفلسطينية – العراقية، من دون أن يلتفت إليها صانع قرار أو ناشط سياسي أو منظمة مدنية من تلك التي تُعنى بحقوق الإنسان في الحياة والحرية والأمان.
بدأت أيام السوء بعيد الغزو الأميركي للعراق بفترة قصيرة، إذ حوصرت هذه الشريحة، وتعرّضت لمعاملة بشعة من أفراد مليشيات همجية سوداء ورجال أمن مسعورين، من ذلك ما رقي إلى مستوى الجريمة المنظّمة، خطف واعتقال وتعذيب واغتيال، في ظل مزاعم أن هؤلاء كانوا سندا لصدّام حسين ونظامه. وفي فترة تصاعد الاحتراب الطائفي وحدها التي عاشها العراقيون في أعقاب الغزو، قتل سبعمائة شاب وشيخ فلسطيني بسلاح رجال مليشيا جيش المهدي بالحجّة نفسها، وقيّدت كل تلك الجرائم ضد مجهولين.
وبحسب ما رصدته وكالة عراقية، فإن اثنين وعشرين ألفا وأكثر اضطروا، فيما بعد، للهجرة من مناطق سكناهم، أو الفرار خارج البلاد. يقيم قسم منهم اليوم في مخيمات بائسة على الحدود مع الأردن وسورية لا تتوفر فيها أبسط الخدمات الإنسانية، وخصوصا في مجالات الصحة والتعليم، والحصول على الكهرباء وماء الشرب، وقد قلصت الأمم المتحدة والمنظمات الدولية رعايتها لهم، بسبب شحّ الموارد التي يمكن أن تغطي خدماتها.
وإمعانا منها في التضييق على من بقي منهم، اتبعت سلطة بغداد خطة ممنهجة لسلبهم كل الحقوق

التي كفلتها لهم قوانين وقرارات سابقة، جديد ذلك ما أقرته حكومة حيدر العبادي في حينه من حجب الحصص التموينية عنهم، وإحداث العراقيل أمام تجديد إقاماتهم، وحرمانهم من المساعدات الحكومية، وتقليص فرص التعليم والخدمة الصحية والضمانات الاجتماعية أمامهم، وحرمان ورثة الموظفين المتوفين العاملين في المؤسسات الحكومية العراقية من حقوقهم التقاعدية التي كانوا يحصلون عليها بموجب تشريعٍ سابق.
وهكذا أصبح العراق مسرحا متنقلا لتوجيه الضربات للفلسطينيين المقيمين فيه واضطهادهم على نحوٍ لم يمارسه أي بلد عربي، حتى البلدان التي أبرمت اتفاقيات سلام مع الكيان الإسرائيلي، وأقامت علاقات معه، والتي تورّعت، في حالات عديدة، عن مواجهة الفلسطينيين المقيمين على أراضيها، بل إنها رفعت أصواتها مرارا في الاحتجاج على قمع الفلسطينيين وإذلالهم داخل الدولة العبرية نفسها، وإذا كانت حكومة بغداد قد تبجّحت في معرض رفضها صفقة القرن بالدعوة إلى ضمان حقوق الفلسطينيين، فإنها نسيت أو تناست أنها أهدرت أبسط حقوقهم الإنسانية التي كانت مقرّة لهم، كما لم تعمل على رد المظالم التي وجهت إليهم، أو توقف حملات التضييق التي تمارسها المليشيات ضدهم بين حين وآخر.
والمثير للدهشة أكثر أن حكومة دولة فلسطين، المسؤولة عن رعاياها في المهاجر، اختارت “النأي بالنفس” عما يجري لرعاياها في العراق، ولم تسع بجدّية إلى تثبيت حقوقهم التي اكتسبوها بتشريعات وقوانين سابقة. وقد نظم الفلسطينيون أكثر من مرة اعتصامات أمام سفارة بلادهم، طالبين أن تحميهم مما يعانونه من مظالم، لكنها لم تحرّك ساكنا، وربما لم تصل إلى مسامعها صرخات الاحتجاج المنطلقة من المعتصمين وشكاواهم من سوء ما يلقونه.
جديد حلقات هذا المسلسل التراجيدي قرار مفوضية شؤون اللاجئين حجب تكلفة إيجار السكن الذي كانت تدفعه للأسر الفلسطينية الفقيرة التي ما تزال في العراق، وهو القرار الذي سوف يضيق الخناق عليها أكثر، وهي التي كًتب عليها أن تعيش على الكفاف، ولا تجد من يقف معها في محنتها.
.. وهكذا، من تيه إلى تيه، ومن حريق إلى حريق، ومن مقتلة إلى مقتلة، يحيا فلسطينيو العراق. لا بواكي لهم، ولا يذكرهم أحد بالخير حتى يغير الله أمرا!

المصدر : العربي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إغلاق