مكتبة الأدب العربي و العالمي

قصة باب بنات وأسباب تسميته/ بواسطة د. منجية نفيزي

حكاية البنات هي حكاية واقعية يرجع عهدها إلى أيام مؤسس الدولة الحفصية المولى أبو زكريا الحفصي الأول و كان هذا الأمير نادرة زمانه لما اتصف به من الهمة العالية والشهامة ومكارم الأخلاق والتناهي في الحلم والعفو عند المقدرة، وقد مسك بزمام الدولة، والبلاد في حالة اضطراب كامل تنخرها الفتن والخلافات في كل جهة وقبيلة، فجمع حوله رجاله ومواليه ورتب الجند وخرج ليقاتل من زاغ عن الطاعة واتخذ الفتن
والتفرقة راية له وكان أكبر منازع لسلطانه وأول محارب له أحد الزعماء من الملثمين يسمى ” يحي بن غانية” المعروف وقتها “بالمايورقي” نسبة لكونه اشتهر بذلك لاستيلائه على الجزر الشرقية من الأندلس المعروفة “بمايورقة” وكان يحي هذا من أواخر الأمراء المرابطين، فلما تغلب الموحدون على الأندلس استبد هذا السيد بتلك الجزر وأخذ يحشد الجيوش والأساطيل لمقاومة خلفاء عبد المؤمن بن علي، فكبرت مطامعه وأطلق نظره نحو افريقية “تونس” فهاجم بعض مراسيها كقابس وصفاقس والمهدية فوجد المساعدة والموالاة من الغوغاء والرعاع من الأعراب فطمع في الحاضرة وحاصرها أياما قليلة ثم انصرف عنها إلى جهات أخرى ينشر سطوته ويستولي ويظلم ويتعسف حتى جاء أبو زكريا فقرر مطاردته ومحاربته والقضاء عليه فأدركه بجهة قابس وهناك تمكن من تشريد
جموعه والاستيلاء على غنائمه و الإيقاع بأتباعه حتى لم يبقى حوله إلا شرذمة سرعان ما تشتت وتركته مع قلة من رجاله، ففر ناجيا بنفسه إلى الصحراء وبقي شريدا طريدا حتى هلك، فانقرض بموته أمر الملثمين من تونس والمغرب والأندلس.
وكان ليحي بن غانية ثلاث بنات ليس له سواهن ، فلما أحس بضياعه في الصحراء وضياع ماله وجاهه وبقرب هلاكه ،خاف على بناته ولم يجد أحدا ممن يستثيق فيه من أقربائه أو رجاله وخطرت له فكرة ذكية وعاقلة. فقد قرر أن يرسل بناته إلى عدوه وخصمه أبي زكرياء لما يعرفه عنه من محاسن الأخلاق وشيم الكرام وحبه للعدل والإنصاف طالبا منه رعايتهن واعتبارهن مثل بناته.
وقد أخذن البنات الثلاث برأي أبيهن فودعنه وقصدن تونس أملهن ضعيف في المستقبل وكانت دهشتهن عظيمة عندما التقين بالأمير أبي زكريا
فوجدنه كما قيل لهن، رجل متواضع في أخلاقه وفي ملبسه، تقي ورع ومتعلم وكريم فقبلهن قبولا حسنا وأنزلهن منزلة عز وأشعرهن بأن ما كان بينه وبين والدهن شيئ وما بينه وبينهن شيئ آخر: فأسكنهن في بادئ الأمر بالقصبة ثم بنى لهن “قصر البنات” ليعشن فيه بكامل الحرية حتى لا يشعرن بوطأة القيد وبالتبعية لرجل كان السبب في القضاء على والدهن. أجرى لهن جراية واسعة من رزقه، فعشن في هناء ودعة وكن معروفات باسم الأميرات “المايورقات” وقد اشتهرن بعلو الهمة والتعفف والأنفة والكبرياء حتى أن بعض الأمراء أرادوا التقرب منهن والتزوج بهن فلم يجدوا منهن إلا الصد والتزاهي بأصلهن، وبقين زمنا في وحدتهن حتى جاء ابن عم لهن فخطب إحداهن من الأمير أبي زكرياء الذي ذهب بعيدا في اعتباراته وأراد استشارتهن أولا في الأمر، فبعث قهرمانة قصره تبلغهن الخطبة على لسانه فكلمت المخطوبة قائلة:
– كلفني مولانا بان أقول لك: هذا ابن عمك وأحق الناس بك لقرابته منكن وكفاءته لكن
– وكان جواب الفتاة : قولي للأمير:لو كان لنا ابن عم ما كفلنا الأجانب
ولم تزد على دلك كلمة.
ولم يعلق الأمير على هذه الإجابة الجافة ولم يأخذ في خاطره من ذلك بل زاد في إكرامهن وبالغ في رعايتهن وتركهن يعشن كما اخترن، ومن يومها لم يقترب رجل من بابهن ولم يجرؤ احد على خطبة واحدة منهن حتى تقدمن في السن وهن عوانس وهلكن على تلك الحال.
بقي قصر باب البنات مهجورا بعد ذلك يستعمله في بعض الأحيان المنفذ (الوزير الأول) أو صاحب الأشغال (وزير المالية) أو احد الأمراء لإقامة حفلة خاصة أو للتوسع عندما تضطرهم الحاجة، وكان القصر مقابلا لقصر القصبة.
ومنذ ذلك الحين أصبح الباب المؤدي من القصبة الى ربط باب سويقة يسمى بـ”باب البنات”

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إغلاق