مكتبة الأدب العربي و العالمي
حكايات من الواقع الاليم / مريم الوزاني
واقعي الأليم…
كعادة سطوري الكئيبة، التي ارتقت فلم تعد تُرسَم بالقلم، بل تسلحت بالدموع التي ترجمت كلماتها.
أنا فتاة على بعد خطوات من حرب العشرينيات، أي مقتربة من كذبة عمر الزهور، فتاة تتزين بلقب العذراء وتحمل اسم صاحبته، فتاة منطفئة، غارقة في بئر السوداوية، منطفئة لأسباب ليست قادرة على شرحها، مرهقة بالكتمان، مجردة من الشغف، إنسانة بكل ما تعنيه الإنسانية من معنى، إنسانة متحركة بلا تفكير، هزمتها طفولتها ومشاعرها في معركة كانت بائسة فيها للحد الذي جعلها تغوص في بحر الواقع وتستمر في قوقعة السواد في بؤرة موحلة، كانت أشبه بمزهرية دون أزهار..
سواد يزين العينان، لكن لم يكن السبب رفيقها الأرق بل أمطار غمامة عيونها التي تتساقط بغزارة منذ أيام مضت ….
كان الأمر صعبا على قلبي المسكين، وقفت أمام المرآة، لمست شعري الطويل، ووجهي الكئيب، فقررت بتشاور مع حيطان زنزانتي أن أغير من نفسي. بكل برود فتحت الدرج، وضعته على مقربة مني، رسمت ضفيرة طويلة على الأسود اللامع، وحملت المقص، فقصصت ضفيرتي الطويلة فابتعدت عني إلى حين وصولها لقدماي.. لونت وجهي بمساحيق التجميل الثقيلة، نظرت إلى وجهي وشعري، وشكلي المتمرد المجنون، وضحكت بجنونية أكبر.
إنها السابعة صباحا، يجب أن أخرج الآن، كي ألحق الباص، ولا أتأخر عن عملي، ارتديت ملابسي المناسبة لشكلي الجديد، حملت حقيبتي وخرجت، سرقت نظرة خفيفة من المرآة الخارجية، وجدتُنِي جميلة…
وصلت محطة الباص، كان المكان شبه فارغا، غير بعض عاملي النظافة وعمال البناء، نظرت إلى الساعة وجدتها السابعة والربع أي لم أتأخر، إذن ما سبب هذا الفراغ الصباحي، رفعت رأسي فأرى العيون تثقب شكلي، لم أبال بها.. سألت أحد العمال إن كان باص السابعة قد مر، ابتعد عني وعلامات وجهه غير مفهومة مع الامتناع عن الإجابة، كررت سؤالي ثلاث مرات، فأجابني أن الباص الصباحي الأول يمر مع الثامنة، فيوم الأحد عطلة…
“كيف لم أنتبه لأمر كهذا ؟ الأحد عطلة، يوم الأحد عطلة..” عدت أدراجي وأنا أضحك بصوت عال وأكرر “الأحد عطلة، يوم الأحد عطلة…”
أدرت المفاتيح، فوجدت أمي وأبي وراء الباب ينتظران المتطفل الصباحي، لكن صدمة عيونهم كانت ضخمة.. جرتني أمي بعنف في محاولة لأن تفهم شكلي الجديد، أجبتها مبتسمة:” جميلة كعادتي أليس كذلك؟”
أجابت بصراخ: “هل جننت؟ أين هو شعرك؟ من من أعدائك فعل بك هذا؟ وما هذه الرسومات على وجهك ؟ وشعرك؟ وشعرك؟ وشعرك الذي لا يغطي رقبتك؟ ما حالة المجانين هذه ؟”
لم أجبها فقامت بسحبي بعنف آخر نحو المرآة :”انظري إلى وجهك! انظري إلى شعرك الغير متساوي! ممن تنتقمين بفعلتك هذه؟ لقد كبرت، لم تعودي طفلة في التاسعة عشر، أنت امرأة على مقربة من الثلاثينيات، أنت أم طفلة، أما أفعالك الصبيانية هاته، لن ترجع زوجك المرحوم، لن تسحبك من لقب الأرملة، ولن تنقد ابنتك من اليتم، فالأقدار الإلهية لا تُخيِّرُنا”
صرخت بعد كلامها صرخة عالية، بدموع وشهقات:” لماذا؟ لماذا تركني ورحل؟ إنه يعلم أني لا أقوى على هذه الحياة بدونه؟ كيف سأعيش من بعده؟” نظرت إلى أمي وأنا أشير إلى قلبي :” هنا، هنا ينبض باسمه، ينبض باسمه يا أمي، لقد عشقته، كان يدي يا امي، كان بئرا يسقيني من الجفاف، كان كل شيء في حياتي” لمست شعري ووجهي وأنا أقول:” لطالما أحب شعري الأسود الطويل، عشقني دون مساحيق تجميل، ما فائدة كل هذا من بعده، كرهت شعري ووجهي” وأكملت صارخة:” كرهت جسمي وملابسي، كرهت نفسي، كرهت مريم، أنا أكره مريم، أكره مريم..”
احتضنتني أمي بقوة وتبعها أبي الحنون في محاولة لتهديئي، ذهبوا بي بجانب صغيرتي النائمة.. تأملت طفلتي التي تشبه أباها الغائب، قبلتها قبلة حنونة لعلي أسقيها من حناني، ونمت نومة طويلة وصغيرتي في حضني، رأفت بي روحي الطاهرة خلالها، وانتقلت بي إلى البارء، لكي ألتقي بالحب والسكينة هناك.
بقلمي مريم الوزاني