مقالات
معاقبة مجرمي الحرب بحسب اتفاقيات جنيف لسنة 1949م
بقلم: الدكتور حنا عيسى – أستاذ القانون الدولي
كما هو معلوم فإن المواد التي تتعلق بشكل مباشر أو غير مباشر بجرائم الحرب ومعاقبتها من جملة المواد الأربعمائة التي تشكل اتفاقيات جنيف الأربع لسنة 1949م هي المواد (1) و (29) (146) (147) من اتفاقية جنيف الرابعة الخاصة بحماية المدنيين وقت الحرب وما يقابلها من مواد في الاتفاقيات الثلاث الأخرى علماً بأن المادتين (1) و (29) تقرران مسؤولية الدولة، والمادتان (146) و (147) تقرران مسؤولية الأفراد:
المادة 1: تنص المادة الأولى من اتفاقية جنيف الرابعة لعام 1949م على أن الأطراف المتعاقدين يتعهدون باحترام أحكامها. ويجعل الآخرين يحترمونها. ومعنى هذا أن الدول الموقعة على الاتفاقية وهي جميع دول العالم تقريباً ليست ملزمة بتنفيذ أحكامها فقط وإنما بجعل الآخرين ينفذونها أيضاً ويفيد هذا النص في قضية ملاحقة مجرمي الحرب وتسليمهم معاقبتهم حيث لم يعد من الجائز للدولة العضو في الاتفاقية أن تكتفي بعد الان باتخاذ التشريعات التي تعاقب التعديات على الأشخاص المحميين وأملاكهم فقط، بل أصبح لزاماً عليها أيضاً ملاحقة المعتدين ومعاقبتهم ولا يمكنها أن تبرئ نفسها من مسؤولية هذه الأعمال.
المادة 29: قررت هذه المادة مبدأ مسؤولية الدولة عن أعمال موظفيها وهذا المبدأ ينبع أصلاً من الالتزام الملقى عليها بموجب المادة الأولى السابقة الذكر من جهة، ومن المادة 144 كذلك التي تفرض على الدولة الطرف في الاتفاقية أن تعمل على نشر أحكامها على أوسع مدى ممكن في بلادها، وعلى الأخص أن تدخل دراستها ضمن برامج الدراسة العسكرية، وإذا أمكن المدينة، حتى تصبح معرفة لجميع السكان.
المادة 146: وتقضي هذه المادة بإلزام الدول الأطراف في الاتفاقية بوضع التشريعات الوطنية اللازمة لفرض عقوبات فعالة بحق الأشخاص الذين يقترفون إحدى المخالفات الخطيرة الوارد ذكرها في المادة التالية أو يأمرون بها، كما تضع على عاتق هذه الدول التزاماً قانونياً دولياً صريحاً بموجب البحث عن الأشخاص المتهمين باقتراف مثل هذه المخالفات الخطيرة أو من أمروا بها وتقديمهم _ بغض النظر عن جنسيتهم _ الى محاكمها الوطنية لتنظر في جرائمهم أن تسلمهم إلى طرف آخر من الأطراف لمحاكمتهم بشرط ان يكون لدى هذا الطرف الأخير أدلة اتهام كافية ضد هؤلاء الأشخاص. وتنص الفقرة الرابعة من هذه المادة على ان المتهمين يستفيدون من جميع الضمانات القضائية والإجرائية والدفاع عن النفس، ويجب ألا تقل هذه الضمانات عن تلك التي وردت في المادة 105 وما يليها عن اتفاقية جنيف الثالثة لسنة 1949م الخاصة بمعاملة أسرى الحرب.
المادة 147: وتعتبر هذه المادة الاعمال التالية مخالفات خطيرة على كل دولة أن تسن تشريعاً للمعاقبة عليها، وهي:
10-التدمير الشامل للممتلكات أو الاستيلاء عليها بدون أن تدعو لذلك ضرورة حربية وبكيفية غير مشروعة واستبدادية.
ورغم ان المادة 147 المذكورة اعلاه قد اكتفت بذكر هذه المخالفات العشر على انها الاكثر خطورة وألزمت الدول الاطراف بمعاقبة مرتكبيها كمجرمي حرب، فإن هذا لا يمنع من اعتبار مخالفات اخرى تستحق نفس الوصف والجزاء أيضاً.
ودليلنا على ذلك قيام بعض الدول بسن تشريعات جزائية اعتبرت فيها كجرائم حرب بعض المخالفات الاخرى التي لم ترد في نص المادة 147 فقد أضافت يوغوسلافيا الى قانونها الجزائي مثلاً مواد جديدة تحوي تقريباً جميع الأحكام الواردة في اتفاقيات جنيف الأربع والمتعلقة بالمخالفات الخطيرة لهذه الاتفاقيات. وهكذا نصت المادة 125 من القانون المذكور على اعتبار الأفعال التالية أيضاً مخالفات خطيرة للاتفاقيات بحيث تصبح في منزلة المخالفات العشر الوارد ذكرها في المادة 147 من الاتفاقية الرابعة: نزع الجنسية قسراً، تغيير الديانة جبرا، إقسار النساء على الدعارة، القيام بإجراءات لتخويف السكان وإرهابهم، العقوبات الجماعية، وضع الأشخاص المحميين في مراكز تجميع، إجبار الأشخاص على الانخراط في أعمال الاستخباراتأو في مصالح إدارة الاحتلال، تجويع السكان، فرض ضرائب غير مشروعة، خفض قيمة العملة الوطنية أو إصدار عملة جديدة بصورة غير مشروعة. فمثل هذه المخالفات تعتبر أيضاً خطيرة، وتتسبب في محاكمة مرتكبيها، وما الفارق بينها وبين المخالفات الواردة في المادة 147 من الاتفاقية سوى أن الدولة الطرف ملزمة بتجريم المخالفات العشر الوارد ذكرها في المادة 147 من الاتفاقية، بينما يقتصر إلزامها في النوع الثاني من المخالفات على وقفها فقط بالتدابير التي تراها مناسبة، ولكن لا يوجد هناك ما يمنع هذه الدولة من تجريمها أيضاً كما فعلت يوغوسلافيا وعدة دول أخرى. هذا من جهة، ومن جهة أخرى يعتبر مرتكبو المخالفات الوارد ذكرها في المادة 147مجرمي حرب دوليين يمكن لأي دولة محاكمتهم ومعاقبتهم _ استناداً للمادتين 1 و146 من الاتفاقية _ إذا لم تشأ تسليمهم الى الدولة التي ارتكبوا جرائمهم في أراضيها أو ضد أملاكها ورعاياها، بينما يعتبر مرتكبو الاتفاقية مجرمين عاديين لا يعاقبون على أعمالهم إلا إذا نص القانون الجزائي الوطني للدولة التي تريد محاكمتهم على تجريم الأعمال التي قاموا بها. ولا تطبق بحقهم إجراءات التسليم الى دولة أخرى كما هو الحال بالنسبة لمجرمي الحرب الدوليين الذين يقترفون إحدى المخالفات الخطيرة المذكورة في صلب المادة 147 من الاتفاقية وذلك حسب مبادئ القانون الجزائي الدولي. ومما يؤسف له أنه بالرغم من ان أغلبية الدول العربية الاثنتين والعشرين قد وقعت على اتفاقيات جنيف وصدقتها، فإن القليل منها فقط من نفذ نص المادة 146 من الاتفاقية الرابعة وسن نصوصاُ تشريعية بتجريم المخالفات الوارد ذكرها في المادة 147 منها. وتحسن هذه الدول صنعاً لو سارعت باستدراك هذا النقص منعاً من إثارة مبدأ (لا جريمة ولا عقوبة إلا بنص) في وجهها بالمستقبل إذا أرادت أن تحاكم أحدمجرمي الحرب الذين سقطوا بين أيديها، ويمكن للدول التي ترغب بسن نص جزائي لتجريم هذه المخالفات أن تتبع واحداً من أسلوبين:
وهكذا نجد ان اتفاقيات جنيف لسنة 1949م قد احدثت تطوراً ملموساً في مضمار تحديد جرائم الحرب ومعاقبتها، ويبدو ذلك بشكل خاص في النقاط التالية:
وأما بالنسبة لبقية المخالفات فاكتفت بطلب اتخاذ الإجراءات المناسبة لوقفها بدون ان تتدخل في تحديد هذه الإجراءات المناسبة.
ج – تركت الباب مفتوحاً أمام الدول كي تعتبر في تشريعاتها الوطنية بعض المخالفات الأخرى غير الواردة في نص المادة 147 من الاتفاقية الرابعة مخالفات خطيرة أيضاً وتعاقب بنفس العقوبة.
د- أقرت اتفاقية جنيف مبدأ اجتماع المسؤوليتين: مسؤولية من اقترف المخالفة ومسؤولية الدولة التي يتبع لها أو يعمل تحت سلطتها، مع الفارق الأساسي بين المسؤوليتين وهو ان مسؤولية الدولة هي مسؤولية مالية في الأساس تنحصر بدفع مبلغ من المال كتعويض الى الدولة التي يتبع لها المتضرر من المخالفة في حين أن مسؤولية الأفراد هي مسؤولية جنائية ومالية معاً.