ثقافه وفكر حر

معلّمةُ اللّغة العربيّة وأستاذ العلوم- قصّة قصيرة / عامر عودة

تسلَّحَتْ بكلِّ ما طالتْه يداها من أسلحة فعّالة قبل لقائه. صبغت شَفتيْها بالأحمر القاني؛ كحّلت عينيْها بمزيج منَ الألوان، فأصبحَ النّاظر إليهما يرى من كلِّ جهة لونًا يختلف عنه منَ الجهةِ الأخرى. دهنت خدّيها بطبقات من مساحيق التّجْميل، بحيث أصبحا كَلَوْن خدود لعبةِ الباربي البلاستيكية بلا حياة؛ ارتدتْ أجمل ثيابها، وتعطّرت بِعطرٍ فرنسيٍّ فاخر وخرجتْ لمقابلته.

عندما وصلت، رأتْه جالسًا بجانب إحدى الطّاولات في المطعم في انتظارها. دخلت وحيَّتْه… رأت على وجهه علاماتِ الرّيبة، فيبدو أنّه لم يعرفها. لكن بعد ثوان نطق باسمِها، راسمًا على وجهه ابتسامة جاهد أن تكون طبيعيّة. فجلست قبالته حائرة خائبة من هذا الاستقبال البارد والجاف، المخيّب للتّوقعات!

تعرّفا على بعضهما في رحلة مدرسيّة. فعلى الرّغم من أنهما يُعَلّمان في مَدرستيْن مختلفتيْن، إلّا أنّ الصُّدف قد شاءت أن تكون رحلةُ المَدرستيْن في اليوم نفسه وإلى المنطقة نفسها. وبما أنّه معلِّمٌ لموضوعَيِّ العلوم والجغرافيا، فقد كان يشرح لطلّابه عن كيفيّة تكوُّنِ التّضاريس الطّبيعيّة الّتي يرونها أمامهم، وعن نوعيّةِ الصّخور والأشجار، والنّباتات… فاستأذنتْه بأن ينضمَّ طلّابها لطلّابه ليستفيدوا منَ الشّرح. ومن هنا بدأَ التّعارف.

وبما أنّهما عازبان فقد كان لتعارفهما هدف آخر، غير إفادةِ الطّلاّب. وعلى هذا الأساس اتّفقا أن يلتقيا اليوم في هذا المكان. لكنّ استقباله البارد لها وصمته الغريب، جعلها تندم على مجيئها.

وها هو أخيرًا يبادرها بالحديث:
– لم أعرفكِ في البداية!
– ا…………..
– شَكلكِ اليوم يختلف عمّا كان في الرّحلة!
– ومَن هي الأجمل، الّتي تجلس أمامك الآن، أمِ الّتي كانت في الرّحلة؟!
– ا……………….
– أريد جوابًا صريحًا.
– قلتِ أنّكِ معلمة لغة عربية.
– صحيح.
– هل يوجد علاقة بين شَغَفُكِ بتشكيلِ الكلمات، وحبّك للمكياج؟!
ضحكت بصوت عال؛ فقد اتّضح سبب عدم معرفته لها، واندهشت لهذا الرّبط بين عملها وشكلها. ثمّ سألته سؤالًا مبطّنًا:
– وهل يوجد علاقة بين حبّكَ للطّبيعة وكرهك لتشكيلِ الكلمات؟!
ضحك هو أيضًا على هذا السّؤال، وأجابها إجابة ذكية:
– الطّبيعة تكون أجمل لو لم تمسّها يد إنسان…

ومع أنَّ الحوار كان تناحريًّا وملغوزًا، إلّا أنّه رطّب الجوّ بينهما، فأخذا يتكلّمان في موضوعات مختلفة، حتّى أنهيا أكل وجبتيْهما، وقاما عن الطّاولة مودِّعين بعضهما البعض. ثمّ افترقا ولم يتواصلا بعد ذلك.

في أحدِ الأيّام رأتْه وهي خارجة منَ المدرسة بعد أن أنهت دَوامها. تجاهلتْه ولم تلتفت إليه. لكن قبل أن تدخل سيّارتها، جاءها مسرعًا مناديًا إياها. وبعد السّلام سألها عن أحوالها، فأجابته باقتضاب… أوضحَ لها أنّه كان ينتظرها. وأردف:
– جئت لأراك على طبيعتك كما رأيتك أوَّل مرّة!
اندهشت مما قاله، ولم تستطع أن تمنع ضحكة هربت منها. وقالت له مبتسمة:
– ها أنتَ قد رأيتني. ماذا تريد بعد؟
– حجزتُ طاولة في نفسِ المطعم الّذي كنّا فيه لنتناول سويّة وجبةَ الغذاء. هل تقبلين دعوتي؟!
(عامر عودة)

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إغلاق