الدين والشريعة

حديث الجمعة بقلم علي الشافعي

ذكريات من وحي النكسة خواطر

لا اريد ايها ــ السادة الكرام ــ ان اتحدث عن نكسة ووكسة عام 1967 اسبابها ومسبباتها ونتائجها والدروس والعبر المستخلصة منها , فهذا ما تجدونه في بطون الكتب , حيث قتِل الموضوع بحثا , لكنني سأروي ذكرياتي كرجل عاصر الاحداث , واظنه خير شاهد على العصر , والحقائق ــ ايها السادة ــ كما تؤخذ من افواه من عاصروها .
كان ذلك الشتاء ( شتاء 1967) كئيبا , ملبدا بغيوم المرارة وثورة الغضب , اثر العدوان الاسرائيلي على قرية السموع , احدى قرى محافظة الخليل في الضفة الغربية , التي صارت ضمن حدود المملكة الاردنية الهاشمية , بموجب قرار الوحدة بين ضفتي الاردن اثر نكبة 1948 , ففي الخامسة والنصف من صباح يوم الأحد 13/11/ 1966 اجتاز الإسرائيليون خطوط الهدنة برتلين من الدبابات تساندهما عدة أسراب من الطائرات المقاتلة , فدمرت 150 منزلا وقتلت وجرحت حوالي 100 من المدنيين الابرياء , قبل ان تعود ادراجها داخل فلسطين المحتلة , الامر الذي احدث صدمة وحزنا شديدين في كل انحاء الوطن , تلاهما مظاهرات عارمة تطالب بالثأر .
اما ربيع عام 1967 فقد كان ملتهبا على وقع طبول الحرب شهد اتفاقات الدفاع المشترك بين دول المواجهة الثلاث ( مصر والاردن وسورية ) اذكر ان قيادة الجبهة المشتركة اسندت للمشير المصري (علي علي عامر ) ,الذي اذكر انه استقبل عند وصوله الى عمان استقبال الابطال . بدانا نسمع التعليقات الملتهبة وسط اجواء ملتهبة , خاصة تعليق الاعلامي الشهير آنذاك في اذاعة صوت العرب ( احمد سعيد) . كان الوالد يحرص ان يسمع يوميا تعليقه الناري بعد اخبار الساعة الواحدة والنصف ظهرا , والاغاني الحماسية التي تلهب المشاعر من تلك الاذاعات , وكنت قد تخطيت سن الثالثة عشرة , وانهيت الصف السابع , وكانت العطلة قد بدأت للتو , يومها( صبيحة الخامس من حزيران يونية 1967 ) :
في حوالي الساعة العاشرة صباحا حضر الوالد من عمله على غير العادة , انزل المسحاة من على ظهره , واتجه نحو المذياع بعينين تحملان من الخوف بمقدار ما تحملان من الامل بعودة قريبة الى الديار السليبة , فهي على مرمى حجر , سالت الوالدة : (عسى ما شر , اراك عدت على غير العادة ) . اجابها : لقد قامت الحرب . قالت على الفور : يا ساتر يا رب , ثم انطلق صوت المذياع بلغة نسمعها لأول مرة وكأنني اسمعها الان : بيان رقم واحد صرح مصدر عسكري بأن إسرائيل ارتكبت حماقة , وبدأت عدوانها في الساعة التاسعة من صباح اليوم بغارات جوية على القاهرة وعلى جميع أنحاء الجمهورية العربية المتحدة ، وقد تصدت لها طائراتنا وأسلحتنا المضادة للطائرات.
البيان العسكري رقم (2):
صرح ناطق عسكري بأن الغارات التي قامت بها إسرائيل حتى الآن أسفرت عن إسقاط 32 طائرة للعدو . فاشتد الحماس على ضوء البيانات الصادرة من الاذاعات العربية , اذكر انني صعدت الى سطح العقد المطل مباشرة على الحدود , فبلدتنا بلدة حدودية نشاهد الحدود على مد البصر , صعدت وفي اعماقي ثورة فرح , كنت اتوقع ان ارى ارتالا من الدبابات والجنود يشتبكون على طول الحدود , ولكن الجبهة كانت هادئة تماما .
عدنا للإذاعة : الاناشيد الوطنية والحماسية يتخللها خطابات وبيانات ثم تعليق احمد سعيد في ذلك اليوم , يبشر الامة العربية بالنصر ويتوعد اليهود بالبحر , فترتفع المعنويات في عنان السماء , تجوع يا سمك نحن على بعد 30كم من تل ابيب , ادار الوالد المؤشر على اذاعة عمان فوجدها اغاني وطنية : (عالميدان يا ابن الا دن عالميدان) , اما الاذاعة السورية فقد كان ارسالها ضعيفا لا يصل الينا .
مع ساعات المساء بدأت مدفعية هاون لقوات الاحتلال تطلق قذائفها على القرية , فنصح رجال الحرس الوطني الناس بمغادرة القرية الى الحقول والتلال المجاورة حفاظا على ارواحهم حتى تنتهي المعركة , لان الملاجئ غير متوفرة … لماذا ونحن قرى حدودية ؟ اذكر ان الوالد احضر حمارنا وحمله بعض الفراش والمواد الغذائية والدقيق وانطلقنا مع اهل الحي الى الحقول المجاورة , كنا نعرف مغارة كبيرة في تل خارج البلدة . نظفت على عجل وأنيرت وهيئت للنساء والاطفال , وانتشر الرجال تحت الاشجار في حلقات تعكس الروح التعاون وسط الفرحة بقرب النصر وعودة الديار السليبة . اذكر انه في تلك الليلة سلّط كشاف ضخم من مكان اطلاق المدفعية على القرية والحقول المحيطة , فظن الناس ان اليهود قد اكتشفوا مكانهم تمهيدا لقصفهم , وفعلا في النهار القيت بعض القذائف على الحقول , فقرر الاهالي الانطلاق الى مكان اكثر امنا ,
في اليوم الثالث للحرب بدأت اشاعات تتغلغل بين الناس نقلا عن اذاعة لندن بان الحرب قد حسمت منذ اليوم الاول , وانها في حكم المنتهية بعد ان دمر اليهود سلاح الجو المصري والسوري , وان الضفة الغربية قد سقطت بيد الاحتلال اضافة الى قطاع غزة وسيناء والجولان السوري , لم يصدق الناس في بداية الامر خاصة وهم يستمعون للبيانات النارية من الاذاعات العربية , واتهموا اذاعة لندن بالعميلة والمثبطة لعزيمة التحرير لدى الجيوش العربية , فقاموا بمقاطعتها . لكن الشائعات اخذت تزداد شيئا فشيئا . بدأت تترسخ كحقيقة قائمة , خاصة بعد ان سكتت الاذاعة الاردنية من رام الله وحل محلها مذيع يقول : هنا صوت اسرائيل من اوشليم ورام الله . فعرفنا ان الضفة سقطت بأيديهم , وان الاذاعة الاردنية في رام الله استولى عليها جيش الاحتلال . وتأكد الامر عندما القى الرئيس جمال عبد الناصر خطاب التنحي عن الحكم يوم (التاسع من حزيران يونية) , وانه يتحمل مسؤولية الهزيمة . فقرر الناس العودة الى منازلهم , وفي عيونهم اصرار عجيب على التشبث بالأرض مهما كلفهم الثمن .
عدنا الى القرية , وبعد يومين او ثلاثة دخل القرية خمسة جيبات عسكرية عليها وحروف لم نعتد على رؤيتها , انها باللغة العبرية , اعتدنا عليها فيما بعد , لتعلن في مكبرات الصوت وبلهجة تعودنا عليها فيما بعد : يا اهل البلد ممنوع التجول , وعلى الرجال من سن 15ان يتجمعوا في ساحة المدرسة . كنت اقل من خمسة عشر لذلك لم احضر التجمع , علمنا من الوالد انهم امهلوا الناس ثلاثة ايام لتجميع كل سلاح يمكن ان يقاوم حتى الخناجر والسيوف , تحت التهديد والوعيد والتبجح بهزيمة الجيوش العربية , وعليكم ان لا تقاوموا فقد اصبحتم من مواطني دولة اسرائيل . بعدها ما تغير علينا سوى فتح الحدود , حيث بدا تبادل الزيارات بين اهل الضفة واهاليهم من فلسطينيي الداخل المحتل , وبذات المنتجات الإسرائيلية تغزو الاسواق شئتم ام ابيتم .
الى ان جاء يوم لن يمحى من ذاكرتي حتى اوسّد الثرى , يوم الاول من تشرين الاول , وهو بدا الدراسة في مدارس الضفة في ذلك العام !! اصطف المعلمون امام الطلبة وكأن على رؤوسهم الطير وعيونهم مغرورقه بالدموع ! اذ لم يعزف السلام الملكي , ولم ينشد الطلبة نشيد موطني , ولم يقف المدير ليحيي طلبته , ويهنئهم بالعام الجديد , وتسلل الطلبة الى صفوفهم بكل هدوء , يومها فقط عرفنا اننا اصبحنا تحت الاحتلال . طابت اوقاتكم .

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إغلاق