مكتبة الأدب العربي و العالمي

حاولوا تحريفها وطمسها / اقرأ قصة المسلم الذي قهر كبار القساوسة

نص القصة:

خرج واصل الدمشقي؛ الشاب الفقيه الذي ترك دراسته بدمشق، في غزوة إلى بلاد الروم. لكنه ولسوء حظه وقع ومن معه من الجنود المسلمين في الأسر، إذ تم أخذهم إلى أمير رومي اسمه بشير، كان مسلما ثم ارتد إلى النصرانية.
استعرض بشير الأسرى، وكانوا ثلاثين، سألهم الواحد تلو الآخر عن دينهم وجادلهم في بعض عقائده، ولما جاء دور واصل أبى أن يرد عليه بشيء.

– قال له بشير: ما لك لا تجيبني؟.

– فرد واصل: لست مجيبك اليوم بشيء.

ثم قال بشير:
– إني سائلك غدا فَأَعِدَّ لي جوابا.

فلما كان من الغد، بعث بشير لواصل وقال له:
– الحمد لله الذي كان قبل أن يكون شيء، وخلق سبع سموات طِباقا بلا عون، ثم دحا سبع أراضين طِباقا بلا عون؛ فعجبا لكم معاشر العرب حين تقولون:” إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون”. {آل عمران: 59}.

سكت واصل، فقال له بشير:
– ما لك لا تجيبني؟.

– قال: كيف أجيبك وأنا أسير بين يدك، فإن أجبتك بما تهوى، أسخطت علي ربي وهلكت في ديني، وإن أجبتك بما لا تهوى خفت على نفسي، فاعطني عهد الله وميثاقه أنك لا تغدر بي، وأنك إذا سمعت الحق تنقاد له.

– فقال بشير: فلك علي عهد الله وميثاقه، لا أغدر بك، وإني إذا سمعت الحق انقدت له.

ورأى واصل أن يستأمن لنفسه قبل أن يجيب. فلما اطمأن، قال لمحدثه:
– أما حمدك الله وثناؤك عليه فقد أحسنت الصفة، وهذا مبلغ علمك واستحكام رأيك، والله أعز وأجل مما وصفت، وأما ما ذكرته من صفة هذين الرجلين “سيدنا عيسى وآدم” فقد أسأت وأخطأت !. ألم يكونا يأكلان ويشربان، ويقضيان حاجاتهما، وينامان ويصحوان؟.

– فرد بشير: بلى

– فقال واصل: فَلِمَ فرقت بينهما؟.

– قال بشير: لأن لعيسى روحان اثنين، روح يبرئ بها الأكمه والأبرص ويعلم بها الغيب ويصنع بها المعجزات، وروح لما ذكرت من أحوال الناس!.

– فقال واصل متعجبا: روحان اثنان في جسد واحد؟!.

– فرد بشير: أجل

– فقال واصل: فهل كانت القوية منهما تعرف مكان الضعيفة؟.

رد بشير منفعلا:
– قاتلك الله !. تعلم أو لا تعلم .. إلى ماذا ترمي؟.

– فأجاب واصل: فإن كانت تعلم فلماذا لا تطرد عنها قاذورات الضعف البشري وآفاته ؟!. وإن قلت أنها لا تعلم، فكيف تفقه الغيب وهي لا تدرك موضع روح معها في جسد واحد؟!.

فسكت بشير محتارا، ثم قال واصل لبشير:
– نشدتك بالله، هل كان سيدنا عيسى يأكل الطعام، يشرب، يصوم، يصلي، ينام، يصحو، يفرح ويحزن.

– فرد بشير: أجل صحيح

– فقال واصل: نشدتك بالله، لمن كان يصوم ويصلي؟.

– قال: لله عز وجل

ثم قال بشير:
– ما ينبغي لمثلك أن يعيش بين النصارى، أراك رجلا قد تعلمت فن الكلام. لكن أعدك غدا أني سآتيك بمن يخزيك الله على يديه، ثم أوكل باستدعاء قسيس خبير ليقارع واصل.

فلما قدِم القس، أشار بشير إلى واصل بسبابته، ثم قال:
– هذا العربي له رأي وعقل وأصل في قومه، وأَحَبَّ أن يدخل ديننا ..

فأقبل القس إليه، وقال:
– غدا أغمسك في المعمودية غمسة تخرج منها كيوم ولدتك أمك !.

– فقال واصل للقس: فما هذه المعمودية؟!.

– قال القس: ماء مقدس

– قال واصل: من قدسه؟!.

– رد القس: أنا والأساقفة من قبلي.

– فقال واصل: فهل كانت لكم ذنوب وخطايا، أم أنت وهم مُبرؤون من النقص؟.

– رد القس: كلنا ارتكبنا الخطايا، وليس هناك مبرأ إلا يسوع.

– فقال واصل: فكيف يُقَدِّسُ الماء من لم يُقَدِّس نفسه؟!.

وهنا اضطرب القس، ثم استدرك قائلا:
– إن سيدنا يحيى بن زكريا عليه السلام، أغطس سيدنا عيسى بن مريم بالأردن غطسة ومسح برأسه، ودعا له بالبركة.

– فقال واصل: واحتاج سيدنا عيسى إلى سيدنا يحيى بأن يمسح رأسه ويدعو له بالبركة !. فاعبدوا سيدنا يحيى، سيدنا يحيى إذا خير لكم من سيدنا عيسى .. فبُهت القس.

وتمطى بشير على فراشه وأدخل كمه في فيه، وجعل يضحك. وقال للقس:
– قم، أخزاك الله، دعوتك لتنصره، فإذا أنت قد أسلمت.

وانتشر خبر الأسير اللبيب حتى بلغ الملك وكبير القساوسة. فأرسل في طلبه، ولما حضر بين يديه، أخذ يسأله: بلغني عنك أنك تنتقص من ديني.

– فقال واصل: إن لي دينا كنت ساكتا عنه، فلما سُئلت عنه لم أجد بُداً من الذب عنه.

– قال الملك: فهل في جعبتك حجج؟.

– فرد واصل: نعم، أُدعوا لي من شئت يناظرني، فإذا كان الحق في يدي، فلا تلمني عن الذب عن الحق، وإن كان في يديك رجعت إلى الحق.

فدعا الملك بعظيم النصرانية، ولما دخل عليه سجد له الملك ومن عنده أجمعون.

– عندها قال واصل: أيها الملك، من يكون هذا؟.

– أجابه: هذا هو رأس النصرانية، وهو الذي تأخذ النصرانية دينها عنه.

– فسأل واصل الملك فجأة: هل له من زوج وولد؟.

– فقال الملك: ما لك، أخزاك الله، هو أزكى وأطهر من أن يتدنس بالنساء أو يُنْسَب إليه ولد، أو أن يلوث بالحيض!.

– فقال واصل: تأخذكم الغيرة من نسبة المرأة إلى هذا، وتزعمون أن رب العالمين – حاشا لله – سكن جوف امرأة وعانى ضيق الرحم ووحشة البطن .. عجبا لكم !.

فصدح القس ساخطا:
– هذا شيطان من شياطين العرب، ألقى به البحر إليكم، فأخرجوه من حيث جاء.

فأقبل واصل إلى القس وقال:
– عبدتم نبينا عيسى بن مريم لأنه لا أب له، فهذا آدم لا أب ولا أم. خلقه الله بيده، وأَسْجَدَ له ملائكته، فضموا سيدنا آدم مع نبينا عيسى حتى يكون لكم إلهين اثنين .. وإن كنتم عبدتموه لأنه أحيا الموتى، فهذا حزقيل؛ تجدونه مكتوبا عندكم في التوراة والإنجيل لا ننكره نحن ولا أنتم، مر بميت فدعا الله عز وجل فأحياه حتى كلمه، فضموا حزقيل مع نبينا عيسى حتى يكون لكم ثالثة ثلاثة .. وإن كنتم عبدتموه لأنه أراكم العجب، فهذا يوشع بن نون؛ قَاتَل قومه حتى غربت الشمس، فقال ارجعي بإذن الله، فرجعت اثني عشر برجا، فضموا يوشع بن نون مع نبينا عيسى ليكون لكم رابع أربعة .. وإن كنتم عبدتموه لأنه عُرج به إلى السماء، فَثَمَّ ملائكة مع كل نفس، اثنين بالليل واثنين بالنهار، يعرجون إلى السماء ما لو ذهبنا نعدهم؛ لالتبست علينا عقولنا، واختلط علينا ديننا، وما ازددنا في ديننا إلا تحيرا.

– قال القس: اذهبوا به إلى الكنيسة العظمى، فإنه لا يدخلها أحد إلا تنصر.

فما إن دخل واصل الكنيسة، حتى جعل أُصبعيه في أذنيه، وراح يردد الآذان، فجزعوا لذلك جزعا شديدا وارتعدوا، ثم جاءوا به إلى الملك، فقال له:
– ما الذي فعلته؟.

– رد: ولجت وذكرت ربي بلساني وعظمته بقلبي، فإن كان كُلَّمَا ذُكر اسم الله في كنائسكم يَصْغُرُ دينكم؛ فزادكم الله صَغارا.

– قال الملك: صدق ولا سبيل لكم عليه.

– قالوا: أيها الملك، لا نرضى حتى تقتله !!.

– قال واصل: والله العظيم لو قتلتموني، وبلغ ذلك ملكنا، لوضع يده في قتل القسيسين والأساقفة وخرب عليكم الكنائس وكسر الصلبان ومنع النواقيس.

– قالوا: أَوَ يفعل؟!!.

– قال الملك: يفعل فلا تشكوا.

فراحوا يرطنون بلغتهم المبهمة كأنهم في اجتماع، وقد بدا جليا بأنهم فقدوا القدرة على مقارعته، فقرروا أن يخلوا سبيله في نهاية المطاف.

وقبل أن يهم واصل بالخروج، أجال نظره في القاعة المملوء أرجاؤها بالتماثيل المعلقة، والأصنام الثابتة، فقال للملك:
– سل هؤلاء الأساقفة عن هذه الأصنام التي في كنائسكم، هل تجدون لها في الإنجيل مبرراً؟. فإن كانت في الإنجيل، فلا كلام لنا، وإلا، فما أشبهكم بالوثنيين !!.

فقال الملك: صدقت !.

في هذه الأثناء استشاط عظيم البطارقة واثْبَأجَّ غضبا، ثم قال:
– أخرجوه من حيث جاء، لا يقطر من دمه قطرة في بلادكم، فيفسد عليكم دينكم.

فوكلوا به رجالا فأخرجوه إلى ديار دمشق !. وعاد واصل ومعه الأسرى الثلاثون، وقد بدل الله انكسارهم انتصارا !.

المصادر:
– تاريخ دمشق لابن عساكر

#نخوة_العرب
#قصص_من_مأثورنا_العربي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إغلاق