مكتبة الأدب العربي و العالمي
أصدقاء الرئيس (قصة قصيرة) بقلم عامر عوده
كنت في إحدى الدكاكين في حارتي، عندما سمعت أصوات صراخ وشتائم. وكان في الدّكان رجلٌ من الحارة أعرفه جيدًا. قامته طويلة؛ عينياه عسليتان، وشاربه طويل أشقر، يهابه كلّ مَن ينظر إليه. أمّا صوته فجهوري قوي مخيف، خاصة إذا صرخ على أحد الأشخاص أو شتمه. هو شخص شبه أمّيّ منَ الناحيةِ الثقافية والعلمية، أما منَ الناحية الأخلاقية فحدِّث ولا حرج! يُخدع كلّ مَن ينظر إليه، لمظهره المهيب بملابسه الجميلة المنسّقة. وقد خُدع به أحد رؤسائنا الوطنيين؛ فقيادتنا تطورت مع تطوّرِ المجتمع الذي أصبح يهتمّ بالشكل لا بالجوهر!
عندما سمعنا الصراخ، ركضنا إلى الخارج لمعرفة ما يجري، ورأينا بعض الشُّبّان والشّابات يلتفّون حول “رئيسنا الوطني” لحمايته من بعضِ الزّعران الّذين حاولوا الاعتداء عليه. ركضت أنا الآخر نحوه لأحميَه، وتلقيت بعض الضّربات عنه. وخلال المعركة نظرتُ صدفةً إلى بيت ذلكَ الرجل الذي كان معي في الدّكان، فرأيته يراقب ما يجري خلسةً من وراء نافذة بيته. لكن عندما حضرتِ الشرطة، نزل مسرعًا إلى الشارع، ولحق به ولداه، اللذان كانا هما أيضًا مختبئَين، وراء النافذة يراقبان ما يجري. وأخذ يشق طريقه بين المحتشدين، وهو يهدِّد ويتوعّد كل من تُخَوِّل له نفسه بالاعتداء على الرئيس. وعندما وصل إليه ضمّه إلى صدره وقبّله، ثم قام أحد أولاده برفعه على كتفيه، وبدأ يهتف بحياته والناس تردّد وراءه. وسار به حتى وصل أمام بيتهم، عندها صرخ هذا الرجل بصوته الجهوري العالي المخيف: “سأسحق كلَّ مَن يحاول الاعتداء عليه. فهو الآن في بيتي”، ثم هتف بحياة الرئيس، فردّت الناس من ورائه “يحيا الرئيس… يحيا الرئيس…”
وأخذتِ الجموع تتدفّق إلى البيت لتهنئ الرئيس بالسّلامة ولتتضامن معه. وحضرت إحدى محطات التلفاز لتنقل الخبر، فظهر هذا الرجل على الشاشة بجانب الرئيس عابسًا نافخًا صدره، مطلِقًا بعضَ الشعارات التي حفظها عن ظهر قلب من كثرة ما سمعها- فالتكرار يعلم الحمار- وأصبح هو حديث البلد. أمّا الأبطال الحقيقيون منَ الشّباب والصّبايا، فلم يذكرهم أحد…
ومرّت الأيام، وتوطَّدَتِ العلاقة بين هذا الرجل و”رئيسنا الوطني”، وأصبحنا لا نرى الرئيس الّا وهذا الرّجل معه، يرافقه في أغلب الأماكن، وكأنّه حامي حِمى الوطنية. وفي الاجتماعات الشعبية التي كان يخطب بها “رئيسنا الوطني” كان هذا الرجل وزوجته وأولاده يجلسون في الصف الأمامي، مرتدين أجمل ملابسهم؛ ليراهم الرئيس بكامل أناقتهم، فيذوب أكثر في حبهم، ولا يعد يرى في القاعة المليئة بالجمهور غيرهم، خصوصًا أنهم من أكثر المصَفّقين له. ويبدو أن “رئيسنا الوطني” كان مسرورًا جدًا بهذه الصداقة، فهو يحبّ أن يصادق مَن هُم أقلّ منه فهمًا ومعرفة وشأنًا، ليبقى هو الرئيس دون أيّ منازع، ولتبقى كلمته هي السائدة، دون أن يسمع انتقادات لممارساته. فعيَّن هذا الرجل في أفضل الوظائف، وقلَّده أعلى المراكز.
ومرّت السنون… وبدأتُ أشكُّ فيما رأيتُ حول المعركة التي دارت قرب دكّان الحارة! فهل هذا الرجل هو نفسه الذي كان يراقب المعركة كالجبان من خلف نافذة بيته، أم كان رجلًا آخر؟! ولكن ما حدث بعد ذلك أزال كل شكوكي. ففي يوم الانتخابات، وبينما كنتُ أنتظر دوري على باب صندوق الاقتراع لأدليَ بصوتي، كان هذا الرجل ينتظر دوره بالتصويت هو الآخر، وبنفس الوقت جاء “رئيسنا الوطني” ليدلي بصوته هو أيضًا مثله مثل أي مواطن، فهجم عليه بصورة مفاجئة بعض الزّعران محاولين الاعتداء عليه مرة أخرى؛ وما كان من هذا الرجل الّا أن انسلَّ هاربًا دون أن يشعر به أحد. أما مًن كان من شباب وصبايا ورجال ونساء فقد دافعوا عنه وحموه. ولم أرَ هذا الرجل في المعركة أبدًا، ولا أعرف أين اختفى فجأة. لكنّه كعادته، ما أن هدأت حتى ظهر بشاربه الطويل ووجهه العبوس، وهو يهدّد ويتوعَّد شاقًا بيديه الطريق بين الجمهور ليصل إلى الرئيس، وهذه المرة كانت معه زوجته التي التصقت به وأخذت تمسح بمنديلها العرق المتصبّب على وجه ” رئيسنا الوطني”.
– لا تزعل مني، فأنا أعرف أنك تحبه، لكن ليس كلّ ما يلمع ذهبًا- همس بأذني أحد المتجمهرين.
فأجبته:
– هذا صحيح؛ ولكن عندما تصبح رئيسًا، فإن كل شخص يُصَفِّق لك ويمسح لك عرقك يكون ذهبًا!
وانطلقت منّا ضحكة خافتة أثارت استغراب المحتشدين!
(عامر عودة)