في أواخر شهر تموز/ يوليو 1783، وقعت جزر البحرين برمتها، في قبضة قبيلة عائلة آل خليفة، الذي يعود نسبها إلى سلالات حلف العتوب، التي كانت تسكن في قرى منطقة الهدار من أفلاج نجد، في شبه الجزيرة العربية (المملكة السعودية الحالية) وذلك بعد شنها غزوة جاهلية، قادها “بطل الغزو” عميد القبيلة، أحمد بن محمد آل خليفة، الملقب ب “الفاتح”، خلفت ورائها مجازر وحشية، وابهظ ثمن من الأرض المحروقة، وأغتصاب الكيان السياسي، وكان الهدف من كل تلك الممارسة العنفوية الرهيبة، هو تشييد مشيخة مستقلة بها ذاتيا، بعد ما فشلت في قضية ترسيخ أقدامها في الزبارة، في شبه جزيرة قطر، ويكون بوسع هذه المشيخة العتيدة، تخليد إسمها في التاريخ . وفي غضون الأسابيع الأولى، من فرض سيطرتها على الأرض والكيان السياسي، بعد اسقاط التاج من على رأس، حاكم البحرين، في ذلك الوقت، نصر بن ناصر آل مذكور، زعيم قبيلة آل مذكور، المنحدرة من إحدى قبائل المطارشة، التي سكنت في واحات وسواحل مسقط وعمان ( الامارات العربية المتحدة الحالية ) والتي كانت في حينها تمسك بزمام الامور في البحرين لفترة طويلة من الوقت، امتدت من العام 1737 وحتى العام 1783، بالوكالة عن حكام الأمبراطورية القاجارية الفارسية، وتحت وصايتهم المطلقة، أعلن عميد القبيلة، أحمد بن محمد آل خليفة، عن انجاز مهمته في احتلال الجزر، وسعى لتثبيت مرتكزات مشيخته الأولى العتيدة في البحرين، التي كانت قد تولدت عن نتائج الغزو المشؤوم، والتي أفضت بدورها، إلى تغييرات هائلة في البنى الأساسية التحتية على مستوى البلاد والمجتمع . وبأوهام “أسطورة التفوق العنفوي الشديد، الذي صنع الانتصار العظيم، والفتح المجيد” للبحرين، والذي قيل بحسب عميد القبيلة الغازية، أنه دفع ثمنه غاليا من أرواح وتضحيات المقاتلين النشامى من أفراد أسرته، الذين سقطوا في المعارك، حاول الأخير، أن يتفرد بالحكم، ويفرض الطوق الخانق والعسير على المجتمع البحريني برمته، ويتصرف بحزم فعلي على جميع مقدرات البلاد والأمة والمرافق الحيوية العامة، سواء كان قد رضى الآخرون بذلك، أم لم يرضوا، فالمهم هو:” اننا نريد كل شيء في أيدينا وتحت تصرفنا للحفاظ على مكتسبات ذلك الانتصار العظيم، والحفاظ على العرش ” وبناءا على كل ما اوحت به هذه الاسطورة الخليفية، الموهومة والمزعومة، والتي أثارت مشاعر رفض سكان البحرين الأصليين للاحتلال ونزعة التفرد بالحكم، بشكل كبير. ظل هو وجميع أفراد اسرته، يتصرفون بالارض والكيان السياسي، وكامل موارد الثروة الوطنية من دون أي حسيب ورقيب، وبسبب الخوف والقلق، من المنافسة على المركزية السياسية، والتعددية، والمشاركة الشعبية، وربما فقدان التاج، الذي تم انتزاعه عنوة من على رؤوس اصحابه التاريخيين، بعد فيضان البحور الغزيرة من الدم، كان من المهم بالنسبة له، أن يقوم بتدشين ثوابت أزلية صلبة وقوية، للحفاظ على ذلك التاج المرصع بالالماس وجواهرالذهب والفضة، وبقاء كيان المشيخة قائما، إلى أبد الدهر، ومواجهة جميع الأطماع، التي تتربص بها، وبمستقبل وجودها الأبدي والراسخ قدما في عمق التاريخ، وبالفعل تبلورت في دهنه، خيارات وثوابت كثيرة، ولكن كان من أهمها على الأطلاق، أربعة ثوابت أصيلة وإجبارية، وأصبحت نقطة تركيز أساسية، في مشروع قيام هذه المشيخة، وجرى التشديد على ضرورات التمسك بها، واحكام القبضة الحديد عليها. وهذه الثوابت الاربعة هي: 1. الشرعية الوجودية الوطنية والمتميزة جدا للعائلة، والتي يفترض أن تكون مبتعدة دائما عن معايشة ومخالطة الاجناس الأخرى العادية في المجتمع، والذين يقلون شأنا وهيبة عن علاء هامات ومقامات شخوص العائلة الحاكمة، وليس صدفة أن “مشايخ” هذه العائلة، ظلوا يختلفون عن غيرهم من عامة الشعب، باعتبار أنهم يحتلون المكانة الطليعية الاولى والمتقدمة في المجتمع، ويعيشون في ترف ونعيم، ويملكون أعلى الثروات في البلاد، وتقف إلى جانبهم جميع القوانين والاجراءات، التي قد تجنبهم من أية مكاشفة أو محاسبة أو قصاص، واما الآخرين من ابناء البلاد العاديين، في نظرهم، فانهم ليسوا أكثر من مجرد رعايا صغار ومحتقرين، أو أنهم بمثابة قطيع من الأغنام، يفعلون بهم كما يشاؤون ويرغبون، وفضلا عن ذلك هناك قرار الزامي في قاموس العائلة، يحظر حظرا تاما وشاملا، على جميع أفراد العائلة الحاكمة الزواج من غير بعضهم البعض، وإذا ما حدث العكس، فأن المتزوج، أو المتزوجة من غير نسيج هذه العائلة، ان يترك جانبا ويهمش، وربما يتعرض للحرمان من منحه الكثير من الفرص الذهبية الثمينة، والأمتيازات العائلية الضخمة، وقد أصبحت كل هذه الأمور بمثابة منظومة قيم لدى العائلة، مازالت سارية بشكل أو بأخر حتى هذه اللحظة الراهنة. 2. ضرورة الدفاع بكل شراسة وشجاعة عن مكانة وقدسية العرش، وبشتى الوسائل المتاحة والممكنة، حتى لو تطلب ذلك تقديم التضحيات الكبيرة، وإغراق الأرض بانهار الدماء الغزيرة، وتوريث التاج لجميع أبناء العائلة وحدهم، طبقة بعد طبقة. 3. احتكار السلطة والحكم إلى أبد الآبدين، وتكريسهما في أيادي النخب العالية من كبار أفراد العائلة والمتنفدين منهم، وتوزيع كافة مؤسساتهما ودوائرهما الرسمية وغير الرسمية، على الباقين من أبناء وبنات العائلة بحسب مستويات القرابة، وترك الفتات من المناصب الادارية والحكومية الأخرى، إلى بطانة العائلة، ومن يظهر بصكوك الولاء لها، وإلى مختلف برامجها ومشاريعها في البلاد. 4. التصرف بجميع موارد الثروة الوطنية، الاقتصادية والمالية والمعنوية، وغيرها من الممتلكات الأخرى التابعة للمشيخة، باعتبارها حق مكتسب ومشروع من حقوق التضحيات الكبيرة، التي بذلت في ساحات معركة البطولة والفتح، وكل ما تبقى منها من الفتات الاقتصادي والمالي، يتم توزيعه على المواطنين الآخرين، لسد رمق الجوع في حياتهم اليومية العادية، ومن أجل دعم مختلف متطلبات البنى التحتية للمشيخة. وبالاضافة إلى هذه الثوابت الازلية الأربعة، برزت هناك في المشهد ثلاثة عناصر أساسيه أخرى، ملحقة بتلك الثوابت، وهي ” تمثيل الشعب والنيابة عنه ” في صنع كافة قرارات الدولة والمجتمع، وذلك من دون التماس الحاجة الملحة والضرورة القصوى، لتأسيس مجالس شورى معينة، أو برلمانات منتخبة، وذلك حتى لايكون بمقدورها في جميع الأحوال مكاشفة السلطة ومحاسبتها على أفعالها أمام المجتمع، وإذا ما تطلب الأمر ذلك تحت ضرورة الأمر الواقع، فيجب أن يكون تدشين مجالس الشورى أوالبرلمانات، فقط على شكل هيكلية صورية، وليس لاعضائهما الحق في التمتع بكامل الصلاحيات التشريعية والقانونية. والعمل الجاد على تكريس وتعزيز سياسة فرق تسد، بين مختلف الطوائف البحرينية، وذلك من أجل تمزيق وتفتيت الوحدة الكاملة للمجتمع، وخلخلة تماسك أركان الجبهة الداخلية، الأمر الذي قد يسهل على السلطة الحاكمة، تطويع المجتمع برمته، وإضعافه وتركيعه، وشل قدرتة على المواجهة والمقاومة، ومنعه بكل السبل من تمرير كافة مطالبه الوطنية المحقة والمشروعة. وأختراع مشروع جهنمي لشراء ذمم النفوس المريضة، ممن لها طموحات سياسية، وأغراض مالية، وأحلام الظهور في الواجهة، لكي تستطيع أن تشكل بها دروع الحماية والدعم المعنوي القوي لها، وتلعب دور النيابة عنها في عمليات التصدي والردع، في جميع مسائل الاعتراضات والانتقادات والاتهامات، الوطنية والدولية، التي قد تواجهها حول سلوك وممارسة أفعالها، وسياساتها العبثية والخاطئة والفاضحة، وارتكابها لجميع الفواحش والموبقات. وأخيرا، فأن تمسك العائلة الخليفية الحاكمة في البحرين، والتزامها الشديد والجدي بجميع الثوابت الازلية البارزة والواضحة، وأصرارها على المضي قدما في ممارسة النهج الأعوج، الموروث من زمن الغزو، ولا تريد التنازل عنه، حتى بقيد أنملة واحدة، قد أضر كثيرا بكل قيم المجتمع، ومفاهيم الوطن والديمقراطية وحقوق الانسان، وحطم كل أحلام الشعب الملهمة في المشاركة الاساسية العملية والجوهرية، في صنع قرارات الدولة والمجتمع، وحرمانه من طعم التمتع في العيش الكريم والحياة السعيدة والمستقرة والآمنة، في ظل دولة برلمانية دستورية عصرية، ومواكبة لعصر الدول المتقدمة والراقية. ولكن مع كل ذلك، وللاسف الشديد للغاية، مازال هناك من يوجد في هذا العصر من الناس، من يرضى على نفسه بالهوان، ويتقبل مثل هذا الواقع المرير والمؤلم، ولم يستطيع أن ينطق ببنت شفة لمواجهته ومكافحته، أو الثورة عليه، ولو على الاقل من أجل رد اعتبار الكرامة، ومازال هناك الكثيرون أيضا، من أصحاب النفوس المريضة، من جميع الوان ووجهات النظر السياسية والحقوقية، المهرولين وراء مصالح وامتيازات ومكرمات السلطة القمعية، الذين أصبحوا يغضون الأبصار عن كشف وفضح كل ممارساتها الخاطئة والفاضحة والفاحشة، بل وانهم أكثر من ذلك كله، مازالوا ينعتونها بأجمل الأوصاف، ويعقدون عليها الآمل في حدوث تغيير جوهري وحقيقي، في سلوك مسالكها السياسية والاجتماعية والأمنية العبثية والظالمة، ويمنون النفس، لو أنهم يستطيعون أن يضعوا لانفسهم قدما راسخة، في صفوفها، وفي ظل رعايتها ويحضون حتى بأقل القليل من مكرماتها السخية، التي أصبحت اليوم ظاهرة من مظاهر عطاءات الحاكم الطاغية، الذي يريد أن يستبدل فكرة هذه المكرمات، بالحقوق الكاملة والمشروعة لكل مواطن بحريني، في أن ينال حصته ونصيبه من المشاركة العملية والفعلية في صنع قرارات الدولة والمجتمع، وتقاسم الثروة الوطنية، وغير ذلك من مختلف حقوق المواطنة المشروعة. هاني الريس