مقالات

شعب مصر يلقي عصاه في مواجهة التطبيع / بقلم : سامح المحاريق

 

القارئ النوعي الذي يبحث عن مقالات صحيفة «القدس العربي» ليس معنياً بتفاصيل حادثة محمد رمضان والصور التي جمعته مع شخصيات (إسرائيلية) وقطعاً لا يعتبر رمضان شخصاً يمتلك الحد الأدنى من الفكر تجاه الحياة، لنتمكن من محاكمة أفكاره، وفي الحد الأدنى التعامل معها بصورة جدية، هو حالة ضائعة بين مغني المهرجانات والراب الشعبي، وممثل أفلام الأكشن، أي أنه ليس موازياً مصرياً لروبرت دي نيرو، أو ميل جيبسون، ولا يمكن مقارنته أو وضعه في أي مكان قريب من نور الشريف أو أحمد زكي، نحن أمام أداة مثالية كانت عجينة طيعة أمام منتجين يفهمون تحولات السوق، وينظرون إلى السينما بوصفها عملاً تجارياً، يمكن أن يدر دخلاً مثل تجارة اللحوم، وهو لا يمتلك أي وازع وطني أو إنساني يمكن أن يمنعه من الإقدام على أي شيء مربح، يزيد عدد سياراته الفارهة، ويغطي تكلفة سكنه وتنقلاته بمستوى النجوم السبعة.

ما يهمنا، هو الموقف الذي اتخذه الشعب المصري، موقف عشرات الملايين من المصريين، الذين أظهروا أن مشروع التطبيع لا يمكن تمريره بمثل هذه العشوائية والبساطة، وأن القصة هي صراع ثقافي متجذر وعميق، لا يمكن التعامل معه بأسلوب الاستعراض والإسراف في تسليط الأضواء والمؤثرات الصوتية والمظاهر الاحتفالية، عشرات الملايين من المصريين الذي كانوا يقفون بالطوابير أمام دور العرض لمشاهدة نجم الشاشة الجديد ومغامراته، التي يحاول من خلالها أن يظهر مثل أي شاب مصري عادي، انقلبوا في لحظة لأن التجاوز كان خطيراً، ولا يمكن التسامح معه، فالأمر ليس نوبة من الغرور أو البذاءة وهي نوبات دورية لدى رمضان، ولكنه تماس مع جرح مقيم وفادح يتقاطع مع شخصية مصر وهوية الإنسان المصري.
على الرغم من التعاطف الواضح بين نقيب المهن التمثيلية أشرف زكي، الذي تربطه مصالح مع رمضان، إلا أنه لم يستطع سوى الاستجابة لغضب الجسد النقابي الواسع، ومعه اتحاد النقابات الفنية، الذي يتوجه لمعاقبة رمضان بالشطب من سجلات النقابة، وهو الأمر الذي سيعني عدم قدرة رمضان على العمل في مصر، وفي خطوة أخرى قامت شركة إنتاج مسلسله المقبل لشهر رمضان بوقف العمل، وبالطبع تدرك الشركة مدى الخسائر المادية المترتبة على قرارها، ولكنها تعرف أيضاً أن وقوفها في وجه العاصفة الشعبية، أمر يتخطى ذلك في التكلفة، فأي شركات مصرية يمكن أن تغامر بعرض إعلاناتها أثناء المسلسل.

من الصعب إقناع المصريين بشيء غير ارتباط وجود إسرائيل بالخراب على جميع الأصعدة

حدثت حالات كثيرة من التطبيع المنفرد لشخصيات مصرية، وبعد أن احتلت هذه الشخصيات المنصات الإعلامية لبرهة قصيرة من الزمن، بوصفها من الخوارج على الإجماع الشعبي في مصر، ذهبت غير مأسوف عليها إلى غياهب النسيان، وحالة رمضان هي الأولى لشخصية من الوزن الثقيل في الشعبية، وتوقيتها أتى في ظل تسويق غير مسبوق للتطبيع، ومحاولة إزالة الوصمة التي ارتبطت تاريخياً بمبادراته. من يحمل التطبيع للمصريين لا يدرك مجموعة بسيطة من الحقائق، تمتد على تاريخ الدولة المصرية الحديثة، وتعود ببعض جذورها إلى مصر الفرعونية، أي العوامل المتأصلة في الضرورات الجغرافية والاستراتيجية لمصر، ولنبدأ من الماضي البعيد، حيث مصر المتوجسة من أي وجود عدائي على حدودها الشرقية، الهكسوس والفرس سلكوا الطريق نفسه، والمصريون سعوا طويلاً إما للتعايش السلمي مع شعوب شرق المتوسط، أو التمدد احترازياً للسيطرة المباشرة على هذه الأراضي، وأي كيان يحمل نوايا عدائية تجاه مصر يعتبر مثاراً للكراهية، ومصدراً للقلق لدى المصريين، كما يشتمل التاريخ المصري على حالة من العداء تجاه اليهود، بوصفهم قبائل وظيفية هددت مصر من الداخل والخارج، أي أن الأمر يكاد يرتقي للتركيب الجيني للثقافة والشخصية في مصر.
في العصر الحديث، دخلت مصر اشتباكات عسكرية واسعة مع إسرائيل في أكثر من محطة، وبعضها كان يحمل فعلاً عدائياً مباشراً وغير مبرر من الجانب الإسرائيلي مثل، أزمة قناة السويس 1956 التي لحقها العدوان الثلاثي، ومع أن الجيل الذي فقد شقيقاً أو ابناً أو أباً لم يعد موجوداً، أو لحقته الشيخوخة إلا أن الإنتاج الثقافي لذلك العصر، من دراسات وروايات وأفلام وأغنيات، ما زال باقياً وحاضراً ومؤثراً، لأنه الأقرب للروح المصرية والأكثر تعبيراً عن المصريين، بالإضافة طبعاً إلى اعتبار أنه أفضل وأجود من الناحية الفنية.
بجانب ذلك، يبقى أن (إسرائيل) كانت المبرر الجاهز والمعلب لإبقاء حالة تعبئة، ولتثبيت فكرة الطوارئ في العقل المصري، وللافتئات على حقوق سياسية مثل، الحياة الحزبية والديمقراطية، لأن لا صوت يعلو على صوت المعركة، ولذلك فمن الصعب إقناع المصريين بشيء غير ارتباط وجود اسرائيل بالخراب على جميع الأصعدة. لن ينجح التطبيع في مصر مهما كان الاستثمار الذي يقف وراءه، هذه قصة يجب أن تكون منتهية، فالمسألة قبل أن ترتبط بفلسطين، فوجود إسرائيل تهديد لمصر ولأي بلد عربي آخر من حيث المبدأ، لأنه وجود يقوم على عملية تصفية وجود الشعب العربي، في بلد يربط المشرق والمغرب، وعلى تناقضات جوهرية بين الخطاب الأسطوري الذي يحمله الشعب الإسرائيلي، ويستمده من مستقاه الديني، ويعود فيؤسس عليه نظرية يهودية الدولة، مقابل ما هو جذري ومتوطد عند العرب من مسلمين ومسيحيين يدركون أن هذه المعركة وجودية، لا يمكن أن تنبني على حلول مرحلية أو استعراضية أو عشوائية، وتحتاج إلى إعادة خطوات لإعادة الحقوق لأصحابها، ولمعالجة الجوانب القانونية والمبدئية، قبل المضي في الخطابة والبلاغة والـ(شو) الإعلامي على طريقة الرئيس السادات، أو أي طريقة أخرى جديدة.
كاتب أردني

المصدر القدس العربي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إغلاق