نشاطات
المطران عطا الله حنا لمسيحيي القدس: المدينة أمانة في أعناقنا
جمان أبوعرفة-القدس المحتلة
جدد رئيس أساقفة سبسطية للروم الأرثوذكس المطران عطا الله حنا دعوته للكنائس العالمية والعربية لإنقاذ مسيحيي القدس المحتلة وأوقافهم، ومواجهة محاولات الاحتلال للاستيلاء عليها، وتفريغ المدينة من مكونها المسيحي، مؤكدا أن حماية الأوقاف المسيحية بالقدس “ليست مهمة المسيحيين وحدهم”.
كما أكد -في حواره مع الجزيرة نت- أن الاحتلال لا يفرّق في استهدافه بين المكوّنين الإسلامي أو المسيحي اللذين ينبغي أن يتوحدا ويقفا في خندق واحد، لأنهما في مرمى الاستهداف عينه، داعيا المسيحيين في القدس للصمود فيها وعدم هجرها، لأنها “مهد المسيحية ومكان ميلاد السيد المسيح” عليه السلام.
وفيما يلي نص الحوار:
نبدأ بمتابعة تسريب الأملاك المسيحية في القدس، وتحديدا بفندقي الإمبريال والبترا قرب باب الخليل، ما آخر التطورات في قضيتهما، وهل من أفق لاستعادتهما؟
هناك استهداف للحضور المسيحي في مدينة القدس، وهذا ليس وليد الساعة، فمنذ أن تم احتلال المدينة تستهدف المؤسسات والأوقاف المسيحية فيها، وقد وصلت ذروة الاستهداف بتخطيط المستوطنين للاستيلاء على أوقافنا الأرثوذكسية العريقة، في باب الخليل والطريق المؤدي إلى الكنائس والأديرة وأحياء البلدة القديمة.
لم يبق داخل الأسوار إلا أربعة آلاف مسيحي، ويمكن أن يتضاءل العدد أكثر إذا تم الاستيلاء على عقارات باب الخليل. من يستهدف الأوقاف المسيحية هو ذاته الذي استهدف الأوقاف الإسلامية التي سُرقت من أصحابها منذ عام 1948، وذروة التعديات هي ما يحدث اليوم في المسجد الأقصى المبارك من اقتحامات هدفها الأكبر تدمير الأقصى لإحلال هيكلهم المزعوم مكانه، وباعتبارنا مسلمين ومسيحيين قضيتنا واحدة وعدونا واحد وإن تعددت الأنماط والأساليب المستخدمة في استهدافه لنا.
نقول إن أوقاف باب الخليل “فندقي البترا والإمبريال” لن تكون لقمة سائغة للاحتلال، ولن نقبل أن يستولي المستوطنون عليها، وهنالك خطوات عملية هادفة لإبطال مخطط هذه السرقة. نحن نعرف خبث الاحتلال وأنه قد يباغتنا في أي وقت، ولكننا حريصون ويقظون لهذا الأمر، ولن نقبل تمرير الاستيلاء، لا بل نقول أكثر من ذلك: إن العقارات التي سُرقت في الماضي كلها يجب أن تعود إلينا، لأن عمليات الاستيلاء والسلب تمت بطرق غير قانونية وغير شرعية، والأوقاف تبقى لأصحابها وليست سلعة معروضة للبيع وعرضة للاستهداف.
نحن نعتقد أنه في الوقت المناسب ستعود كل العقارات التي سرقت في الماضي، لا أقول سُرّبت، لأن من سرق لا يحق له ذلك.
|
ما سبل المحافظة على الأملاك المسيحية في القدس وحمايتها من التسريب وسطوة الاحتلال؟
أعتقد أننا يجب أن نتحدث عن كل الأوقاف إسلامية كانت أم مسيحية، وأتمنى أن تتضافر الجهود للدفاع عن القدس، لأننا عندما نكون موحدين ويدا واحدة نكون أقوى في مواجهتنا للاحتلال، فحماية الأملاك المسيحية ليست مهمة المسيحيين وحدهم، يجب أن يقف إلى جانبنا أيضا العرب والمسلمون والمسيحيون في كل مكان.
ونوجه نداء استغاثة إلى كل الأحرار في العالم، وإلى كل الكنائس المسيحية، وكل المرجعيات الروحية الإسلامية، بأن يقفوا إلى جانبنا، لأن صراعنا مع الاحتلال قاس جدا، وهدفه ليس سرقة الأوقاف فقط، بل إخلاء القدس من أبنائها. صحيح أننا في الميدان والخطوط الأمامية، ويجب أن نقوم بواجبنا، لكننا بحاجة إلى حماية أشقائنا العرب في كل مكان.
إضافة إلى تسريب الأملاك، ما أبرز المخاطر التي تهدد الوجود المسيحي في القدس؟
هناك تراجع دراماتيكي في أعداد المسيحيين في القدس، فالهجرة متواصلة بسبب سياسات الاحتلال والعوامل الاقتصادية والاجتماعية والحياتية، وغيرها من العوامل، التي جعلت بعض المسيحيين يقررون ترك القدس والانتقال إلى أماكن أخرى.
وهناك هجرة داخلية (نزوح)، بترك البلدة القديمة والإقامة في مدن أخرى داخل فلسطين مثل بيت لحم وبيت جالا مثلا، وهناك هجرة إلى أميركا وأستراليا وأوروبا. وخلال مشاركتي في قداس بإحدى كنائس الولايات المتحدة الأميركية، لاحظت أن المسيحيين الفلسطينيين الموجودين بأميركا أكثر من المسيحيين في القدس، وهذه كارثة، ومسألة خطيرة أن يتم إفراغ القدس من مكوناتها الأساسية.
استهداف الاحتلال للمسلمين والمسيحيين على حد سواء، ولكن تداعياته تظهر أكثر لدى المسيحيين لأنهم أقل عددا.
أود أن أوجه ندائي إلى المسيحيين في القدس، أقول لهم ابقوا في القدس، لا تتركوها تحت أي ظرف، فلن تجدوا مكانا أجمل منها، وحافظوا على حضوركم فيها ومنازلكم وعقاراتكم وأوقافكم، إذ القدس أمانة في أعناقنا.
التراجع الكبير والنكبة الكبرى كانت عام 1948، عندما غادر القدس عشرات الآلاف من المسيحيين، هناك أحياء غرب القدس أفرغت عن بكرة أبيها، ولم يبق فيها أحد مثل القطمون وغيرها، وبعد النكبة تتالت النكبات والنكسات التي أدت إلى تراجع أعداد المسيحيين وصولا إلى النكبة الثانية عام 1967، ومنذ ذلك الحين حتى يومنا هذا ما زال نزيف الهجرة مستمرا ومتواصلا، والسبب الرئيس يعود إلى الاحتلال وحواجزه وجداره العنصري، ومن يتجول في القدس العتيقة يرى أوضاعا مأساوية صعبة.
مسؤولية العمل من أجل إبقاء ما تبقى من مسيحيين في القدس لا تقع على عاتق على المسيحيين فقط، بل أيضا على عاتق إخوتنا المسلمين فهم شركاؤنا في الانتماء الوطني العربي الفلسطيني، ونناشدهم أن يكونوا معنا، لأن إفراغ المسيحيين هو خسارة لكل أبناء القدس، وهنالك حاجة لمشاريع إسكانية وترميم المنازل، لمساعدة بعض العائلات والوقوف إلى جانب المسيحيين المهمشين وهذه مسؤوليتنا المشتركة.
ناديتم مرارا مسيحيي العالم بضرورة التحرك من أجل حماية المقدسات في فلسطين والقدس تحديدا، هل تلقيتم أي استجابة؟
نحن لم نألُ جهدا في مخاطبة العالم حول عدالة القضية الفلسطينية، وأطلقنا وثيقة “الكايروس الفلسطينية” قبل عشرة أعوام، ورجال الدين المسيحيون منذ النكبة وحتى هذه الساعة وهم سفراء لقضيتهم أينما ذهبوا.
هنالك الكثير من التجاوب من كنائس عالمية في أميركا وأستراليا وأوروبا وكل مكان، وهناك أصدقاء كثر لفلسطين، يزداد عددهم كل يوم رغم جهود اللوبي الصهيوني. ودائما نقرع أبواب الكنائس المسيحية الأرثوذكسية والكاثوليكية والإنجيلية وغيرها، ونحدثهم عن واجب الدفاع عن فلسطين لأنها أرض الميلاد والمقدسات وأعدل قضية عرفها التاريخ الإنساني الحديث.
بالتزامن مع الاحتفالات بعيد الميلاد المجيد، أغلق الاحتلال أبواب القدس بالكامل في وجه مسيحيي غزة، بينما وزع فتات التصاريح على مسيحيي الضفة الغربية، كيف تنظر لهذا التعدي على حرية العبادة وممارسة الشعائر الدينية؟
أود أن أعرب عن تحفظي الشديد على مسألة التصاريح، لأن الفلسطيني لكي يصل إلى القدس لا يجوز أن يطلب منه تصريح لذلك، فهذه المدينة هي عاصمة فلسطين، والمدينة المقدسة للمسلمين والمسيحيين، ومسألة التصاريح مرفوضة من قبلنا جملة وتفصيلا، يجب أن تكون القدس مفتوحة لأبنائها دائما، كما أن الهدف من التصاريح هو الضغط على الفلسطيني وابتزازه، وكأن الاحتلال يقول لنا أنا أملك مفاتيح القدس أدخل إليها من أشاء وأمنع من أشاء!
نحن لم نُصدم من منع مسيحيي غزة الوصول إلى مدينة بيت لحم أو القدس، فهذا هو الاحتلال ولا يجوز لنا أن ننسى أن كل القطاع محاصر، وهناك مليونا إنسان تحت الحصار، منهم المسيحيون الذين لا تتجاوز نسبتهم الألف نسمة، ونحن نؤكد استنكارنا لهذا المنع الذي يستهدف كل الفلسطينيين ويمنعهم من الوصول إلى الأقصى والقيامة.
نيافتك تكون حاضرا في جميع مناسبات الفلسطينيين، وتشارك حاليا في إضاءة شجرة الميلاد في مختلف مناطق فلسطين المحتلة، كيف وجدت إضاءة الشجرة في القدس مقارنة بمثيلاتها، وما الرسالة من إضاءتها؟
في مدينة القدس احتُفل بإضاءة شجرة الميلاد في أكثر من موقع، وكذلك في بيت لحم وبيت جالا وبيت ساحور ورام الله وغزة، وكثير من المدن والقرى والبلدات. يسألنا الكثيرون عن ازدياد ظاهرة إضاءة شجرة الميلاد في الآونة الأخيرة، حتى بتنا نرى احتفالات يومية بمشاركة كل مكونات الشعب الفلسطيني – مسيحيين ومسلمين- وأقول لهم إن هنالك رسالة للعالم بأسره من وراء هذه الاحتفالات تقول إن الفلسطينيين على من الرغم من جراحهم ومعاناتهم فإنهم سيفرحون ويضيؤون أنوارهم، لأنهم يعشقون الحياة والحرية ويحبون هذه الأرض، ويفخرون بموطنهم الذي ولد فيه السيد المسيح عليه السلام.
إضاءة الشجرة هو عرس وطني بامتياز، ومن خلاله يؤكد الفلسطينيون أنهم دعاة حق وانتماء لهذه الأرض، وسيبقى المسيحيون والمسلمون عائلة واحدة يدافعون عن القدس والقضية الفلسطينية معا.
– في مقتبل عمرك عُيّنت راهبا في كنيسة القيامة بالقدس وبقيت بها، كيف تقارن الحال بين الأمس واليوم؟
أنا في القدس منذ أكثر من ثلاثين عاما، ولدت في قرية الرامة بالجليل الأعلى، وهناك أنهيت دراستي الثانوية وبعدها ذهبت إلى اليونان لدراسة اللاهوت والفلسفة، ومنذ عودتي إلى فلسطين عام 1990 وأنا موجود وباق في القدس، وكما نقول في لغتنا العربية “من عاشر القوم صار منهم”، فأنا مقدسي الهوى والانتماء، أعشق القدس ولا يمكنني أن أتصور نفسي خارجها، في صبيحة كل يوم أسمع الأجراس والأذان وألتقي مع أبناء القدس الذين أحبهم.
القدس التي عرفتها سابقا تختلف عن اليوم، المستوطنون أعدادهم تزايدت والاحتلال يسعى لتهميشنا ويريدنا أن نتحول إلى ضيوف في مدينتنا. لقد تغيرت القدس ولكنني لست متشائما بل إنني متفائل إلى أقصى درجة، لأن مآل كل ظالم مر من هذه الأرض إلى الزوال، وللاحتلال بداية وستكون له نهاية، وهي آتية لا محالة.
إفطار رمضاني نظمته بطريركية اللاتين في دير سيدنا إبراهيم بالقدس بحضور علماء دين مسلمين ومسيحيين (الجزيرة) |
مقرك الرئيس في حارة النصارى بالبلدة القديمة بالقدس المحتلة، حدثنا عن حالها اليوم، وهل ما زالت تحافظ على هويتها ووهجها المسيحي؟
مقري داخل البطريركية الأرثوذكسية في القدس العتيقة بالقرب من كنيسة القيامة في حي النصارى أو الحي المسيحي، وعندما نتحدث عن القيامة نتحدث عن قلب القدس، لكننا نرى اليوم أن المستوطنين يصولون ويجولون، وأن الأوقاف والعقارات سلبت، وأن هناك بؤرا استيطانية منتشرة.
وما زال حي النصارى محافظا على طابعه المسيحي، ولكن لا يمكنني تجاهل تغلغل المستوطنين فيه وفي غيره من الأحياء، والمتجول في البلدة القديمة بالقدس يلاحظ تغيرا ما قد حدث فيها بسبب سياسات الاحتلال وتهويدها، وإني أعيدها مرة أخرى: إن الاحتلال سيزول ويبقى الأهل الأصليون، والمطلوب منا حتى ذلك الحين أن نحافظ على معنوياتنا وصمودنا.
ختاما، ماذا يميّز المسيحي في القدس عن غيره في أقطار العالم، وما الأمانة التي يحملها؟
عندما نتحدث عن القدس وفلسطين نتحدث عن مهد المسيحية، فقبل ألفي عام ولد السيد المسيح -عليه السلام- في بلادنا وانطلقت رسالته إلى مشارق الأرض ومغاربها، ولذلك فإن مدينة القدس في العُرف المسيحي هي القبلة الأولى والوحيدة، وأهم الأماكن المقدسة فيها، ولا سيّما كنيسة القيامة في القدس والمهد في بيت لحم والبشارة في الناصرة، وغيرها، ولذلك حتى في عيد الميلاد هناك نكهة خاصة بالقدس لأن من نحتفي بميلاده ولد عندنا -كما هي الحال في عيد القيامة وكل الأعياد المسيحية- لأنها أعياد مرتبطة بأحداث تمت هنا في الأرض المقدسة.
المسيحيون في فلسطين هم أصيلون في انتمائهم لوطنهم وليسوا بضاعة مستوردة من الغرب، وليسوا من مخلفات حملة الفرنجة الصليبية -كما يسميها البعض- ولهم امتداد لم ينقطع لأكثر من ألفي عام، وهم مرتبطون وباقون في هذه الأرض، بالرغم من كل التحديات والظروف.
المصدر : الجزيرة