اقلام حرة

وجع بلا صوت – نزهة ابوغوش

في ظلال الخراب، حيث الموت يتربّص خلف الرّكام، وقف الطّبيب فوق جسد صغير جسد يتوسّده النّزيف كوسادة وداع.
كانت رائحة الدّم والبارود تطبق على أنفاسه، وفي يده ابرة وخيط، في قلبه خوف ينازع الرّحمة.
” أيّها النّاس، أريد مخدّرا، من يعطيني المخدّر؟” قفز بالهواء، وضرب الحائط بقبضته؛ صرخ، لكنّ الصدى ارتدّ إليه بلا مجيب. التفت إلى الطّفل كانت عيناه متوهّجتين بشيء أكبر من الألم. لم يستطع الطّبيب تفسيره.
همس الطّفل بصوت واهن” قوّ قلبك يا دكتور، وتوكّل على الله… خط وأنا سأقرأ آية الكرسي؛ والله العظيم أنا حافظها منيح”
تجمّدت أصابع الطّبيب، وتراجعت أنفاسه، كأنّ الكلمات صفعت روحه قبل أن تصل أذنيه. نظر إلى الطّفل نظرة طافحة بالدّهشة؛ فإذا به يبتسم بضعف، وعيناه المتعبتان تومضان بطهر لا يليق إلا بالملائكة.
غرز الإبرة في اللحم النّازف، فارتعشت روحه قبل أن ترتعش يده. لكنّه لم يسمع صرخة، ولم يرَ دمعة، بل ؤرأى طفلا بريئا يغمض عينيه ويتمتم بخشوع، وجسده النّحيل يئنّ بصمت. كانت كلّ غرزة تدمي الطّبيب أكثر ممّا تدمي الطّفل؛ وكلّ عقدة في الخيط تحكم وثاقا حول قلبه.
حين أتمّ مهمّته، ابتسم الطّفل ابتسامة هزّت الطّبيب من الأعماق، حينها أدرك جيّدا أنّ هذا الطفل من أنقذه من ألم الذّنب.
خرج من الغرفة بخطوات مثقلة، وهو يدرك أنّ ثمّة أوجاعا لا تحتاج إلى مخدّر، وثمّة أرواحا وإن بدت هزيلة تحمل في داخلها صلابة الكون بأسره.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً

إغلاق
إغلاق