نشاطات
رؤية هذه السلسلة يكتبها د. محمد طلال بدران – مدير دار الإفتاء والبحوث الإسلامية قِيَمٌ تُحيِي الأُمَم: “بناء الشخصية وأثرها في نهضة المجتمع” (12)
الحياء: الحصن المنيع للأخلاق السامية
الحمد لله وكفى وسلام على عباده الذين اصطفى وبعد:
يعتبرُ الحياء خلق رفيع يُشكِّل أحد أهم دعائم الأخلاق السامية وأرقى الفضائل الإنسانية، فهو زينة المسلم وصفة تُميّز شخصيته عن غيره، وجدارٌ منيع يحمي الفرد والمجتمع من الوقوع في مستنقعات الفساد والانحراف، وفي ظل الانفتاح الثقافي الكبير الذي يشهده العالم، تظهر الحاجة المُلحّة للتأكيد على قيمة الحياء كضرورة أخلاقية تحفظ للأمة مكانتها وهويتها.
* مفهوم الحياء وأهميته
الحياء هو خُلق يبعث على ترك القبيح، ويمنع من التقصير في حق الله أو حق الناس، وهو ينبع من الإحساس برقابة الله تعالى ﴿أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى﴾ (العلق: 14)، ويُعمِّق الشعور بالمسؤولية تجاه الآخرين. وللحياء أهمية كبرى في تهذيب النفس؛ إذ يُربِّي الإنسان على التواضع والورع، ويُعينه على تجنب الفواحش والآثام، فعن النبي ﷺ أنه قال: «إنَّ لكل دين خُلقًا، وخُلقُ الإسلام الحياء» (رواه ابن ماجه)، فبهذا الحديث نرى أن الحياء ليس مجرد خُلق فردي، بل هو جزء أصيل من دين الإسلام، مما يؤكد ضرورة ترسيخه في النفوس والأعمال.
– أنواع الحياء
1- الحياء من الله:
ويعني أن يستشعر العبد مراقبة الله له في كل أفعاله، فيترك المعاصي ويتقرب إلى الله بالطاعات، كما قال النبي ﷺ: «استحيوا من الله حق الحياء» (رواه الترمذي).
2- الحياء من الناس:
وهو احترام مشاعر الآخرين وأخذ حقوقهم بعين الاعتبار، بحيث يمتنع الفرد عن الأفعال التي تسيء للغير أو تخل بالأدب العام.
3- الحياء من النفس:
ويتمثل في احترام الإنسان لنفسه وصَونِها عن الذل والانحطاط، فالذي يستحي من نفسه لا يرضى لها أن تُهان بالمعاصي أو الدنايا.
* الحياء في المجتمع
لا شكّ أنّ المجتمع الذي يسوده الحياء يكون أكثر استقرارًا وأمانًا، فالحياء يعزز العلاقات الاجتماعية، إذ يُلزم أفراده باحترام القيم والآداب العامة، كما أنه يُقلل من انتشار الجرائم الأخلاقية والانحرافات السلوكية التي تُهدد سلامة المجتمع.
وقد جاء في الأثر أن الحياء “خيرٌ كله”، وهو ما يُشير إلى أنه ليس هناك موضع يُذم فيه الحياء إذا كان نابعًا من التزام صحيح، بل إن قلة الحياء تُعد من أعظم أسباب فساد المجتمعات، إذ تُشرع الأبواب للأخلاق السيئة، وتُضعف الوازع الديني في النفوس.
* نماذج من الحياء في الإسلام
إن سيرة النبي ﷺ وأصحابه الكرام حافلة بالنماذج المُشرقة التي تُبرز قيمة الحياء، فقد كان النبي ﷺ أشد الناس حياءً، كما ورد في الحديث: «كان النبي ﷺ أشد حياءً من العذراء في خدرها» (رواه البخاري ومسلم).
– ومن النماذج المميزة، قصة عثمان بن عفان (رضي الله عنه)، الذي اشتهر بكونه مثالاً للحياء حتى قال عنه النبي ﷺ: «ألا أستحي من رجل تستحي منه الملائكة» (رواه مسلم).
* تعزيز الحياء في زمن الانفتاح
في عصرنا الحالي، تواجه قيمة الحياء تحديات كبيرة بسبب العولمة والانفتاح الإعلامي والثقافي. لذلك، تقع على عاتق الأسرة والمؤسسات التربوية مسؤولية كبيرة في غرس هذا الخُلق لدى الأجيال.
– دور الأسرة:
يجب أن تكون الأسرة قدوة في تعزيز الحياء، من خلال الالتزام بالقيم الإسلامية والحديث مع الأبناء عن أهمية الحياء بأسلوب يُقنعهم بجماله وأثره في حياتهم.
– دور المؤسسات التعليمية والدينية:
يمكن لهذه المؤسسات نشر الوعي بأهمية الحياء عبر المناهج الدراسية والمحاضرات التربوية والخطب الدينية التي تستعرض النصوص الشرعية وقصص السلف الصالح.
– دور الإعلام:
من الضروري أن يكون الإعلام وسيلة لنشر الفضائل الأخلاقية، وتجنب الممارسات التي تروج لانحلال القيم أو تُقلل من شأن الحياء.
– خاتمة
الحياء ليس مجرد فضيلة فرعية، بل هو خُلق جامع يكفل للنفس الإنسانية كرامتها ويُعلي من شأنها، إنه الحصن المنيع الذي يحمي الفرد والمجتمع من السقوط في مستنقعات الرذيلة، ويُرسخ القيم السامية التي تُحيي الأمم.
لذلك كلّه علينا جميعًا أن نحرص على غرس هذا الخُلق العظيم في أنفسنا وأبنائنا، مستلهمين في ذلك هدي النبي ﷺ وتعاليم ديننا الحنيف، حتى نبني أجيالاً تنعم بالكرامة والعفة وتُساهم في نهضة الأمة ورفعتها.
كانت هذه المقالة الأخيرة في هذه السلسلة “قيَم تبني الأمم” ونحن على موعدٍ مع سلسلة جديدة عنوانها: “مبادرة الأمل للحد من ظاهرة العنف في المجتمع العربي” وفي نفس الوقت سيكون هذا العنوان فاتحة هذه السلسلة الجديدة، بمشيئة الله تعالى.
* طاب صباحكم، ونهاركم، وجميع أوقاتكم، وفرّج الله عن أهلنا المستضعفين إن شاء الله
مقالة رقم: (1842)
15. رجب . 1446هـ
الأربعاء .15.01.2025 م
باحترام:
د. محمد طلال بدران (أبو صُهيب)