مقالات
لبنى ياسين / امرأة من حجر/ من مجموعتي القصصية الأخيرة :”وابل من الخيطان”، الصادرة عن دار الشؤون الثقافية ببغداد ٢٠٢٣
كعادتي، ومن نفس الزاوية المهملة، أراقبه، أتابع حركاته، وسكناته، نومه، وصحوه، أحاديثه، وضيوفه، ما يقرأ، وما يقول، وفي بعض الأحيان ما يفكر فيه أيضاً، أراقب كل شيء بصمت، مبتلعة خيبة لا قبل لمخلوق بتحملها، لكنني ككائن حجري..أستطيع دفنها في صدري، لأغدو مقبرة دون شاهدة.
لم أحظَ بالكثير من اهتمامه، يحدثني من آنٍ لآخر، ثم يتركني في لجّة الصمت أياماً وأسابيع، لكنه بأيّ حالٍ يحبني، هذا ما صرح به لأصدقائه مرات عديدة على مسمعي، فانتشى دفء غامض في قلبي، ورسمتُ على شفتي ابتسامة عصية على الرؤية، إذ كيف يبتسم الحجر؟!!
البارحة رمى بقبعته فاستقرت فوقي، غطّت ملامحي، ولم يتبقَ مني إلا جزء صغير مرئي لم تستطع القبعة تغطيته، لم يكن ذلك رغبة منه في إخفائي، أو محوي من الوجود، إنه يتصرف بتلقائيةٍ فحسب، أعرفه جيداً، يرمي معطفه، وقبعته، وشاله، هنا وهناك، فوق الكرسي، على المنضدة، أعلى الكنبة، على السرير، أي مكان يصادف وجوده جانبه، وهو يخلع هذه القطعة أو تلك من ملابسه، أما الجوارب فهي في مأساة دائمة يفرضها بفوضاه، فيفارق الخلّ خلّه، وتبدأ رحلة بحثٍ يومية عن جوربٍ كامل، وسط تذمره من فوضاه تلك.
لشدّ ما يعجبني وهو في منامته، يبدو طبيعياً للغاية، دون رتوش، كما هو تماماً، وهذا ما جعلني أفهم جيداً أن البشر مزيفون أغلب نهاراتهم، وإن لم ترهم في منامتهم، فأنت لن تعرفهم أبداً.
تميم – وهذا اسمه- يبدأ نهاره بكوبٍ كبير من القهوة، تبدو رائحتها جيدة، لذلك فقد اعتدتُ على شربها معه بطريقتي الفريدة، التي يفرضها علي تكويني القاسي، يصنع القهوة فتملؤني رائحتها شغفاً، وفيما هو يحتسي فنجانه، أحتسي بقية الرائحة على دفعات..كما لو أنني أرتشفها معه.
أكن له حباً عميقاً وصادقاً، هو حبي الأول، وأول شخص أحبني بما يكفي ليغير واقعي المزري، حين انتزعني من تلك المهانة التي كنت أعيشها، حدث ذلك عندما مرَّ صدفة إلى مشغل أبيه النحات الذي صنعني، وحملني، وجاء بي إلى بيته.
كان أبوه قد صنعني منذ وقتٍ طويل، وبعد ضرب، وتكسير، وتقطيع، كوّنني كما شاء، لكنني لم أعجبه لسببٍ ما، حتى أنّه وضعني في زاويةٍ مهملة مظلمة لا تُرى، وعندما صادف ورآني أحدهم، سارعه إلى القول: لا تأبه بهذا العمل، إنّه مشوه لا يستحق الاهتمام، سأرميه لاحقاً.
كسرتْ كلماته قلبي، وبقيتُ أتألم بصمت، وأنا أراقب الحرص الذي يعامل فيه بقية أعماله، بينما يأكلني الغبار، والغيرة.
ثم أنّه في يوم ما كان في ضيافته صديق قريب جداً له، يزوره بشكل متقطع، وصديقه هذا ليس بفنان، بل أجزم أنّه ليس من ذوي الشهادات الذين يتحدثون بفخامة، تفوح منهم رائحة العطور الباريسية الفاخرة، ويستخدمون المصطلحات الثمينة التي لا يمكن أن تتناولها إلا بشوكةٍ، وسكين، ومنديلٍ موضوع بعناية على حضنك، كان صديقاً فحسب، صديق طيب، يتحدث بعفوية، ويضحك بصوتٍ عالٍ جداً، ولا يأبه لترهات الاتيكيت، صديق يجعل صاحبي الفنان شخصاً آخر، رجل عفوي، وبسيط، على خلاف ما هو عليه مع الآخرين، وفي أحد الأيام لاحظني هذا الصديق، وأطال النظر إلي، ثم قال:
لا أدري..في هذا التمثال شيء مختلف عن كل أعمالك..شيء محبب..لكنك تقول أنه مشوه..لا أرى فيه تشوهاً..
ثم أضاف: اعذرني..أنت تعلم أنني رجلٌ بسيط، و لستُ بعارفٍ في الفن.
ضحك الفنان ضحكةً مجلجلةً لا يضحكها عادة بوجود عليّة القوم، ثم قال:
لا أخفيكَ يا صاحبي، هذا العمل هو العمل الوحيد الذي قمتُ به بحريةٍ تامة، ودون أن أفكر بقيمته الشرائية، ومن سوف يقتنيه، كنتُ أعمل فيه من قلبي وجوارحي، دخلت معه أثناء عملي به سراديب خفية لم أكن أعرفها، حررني من نفسي، فلم أعد أعرفني، لكنه عندما انتهى لم يكن صالحاً للبيع، هناك أعمال رغم أنك لا تقوم بها بهذا الزخم من الانفلات من كل شيء، إلا أنها تجلبُ لك الكثير من المال، هذا العمل أرعبني، خفتُ أن أترك نفسي على سجيتها، من سيشتري مني إن فعلت؟ لذلك قررت أن أتخلص منه…خذه إن شئت.
رد صديقه: يعجبني ذلك..ولكن أين تريدني أن أضعه..؟؟ أنت تعرف ظروفي.
لم يأخذني صديقه، ولا هو غير مكاني، لكنني بعد تلك المحادثة شعرت بنشوةٍ كبيرة، ورفعت رأسي بفخر، لست للبيع، ولن أدر أرباحاً، لكنني ما صنعَته الحرية، وهل يمكن للحرية أن تصنع عملاً غير جميل؟
بعدها، عاد ابنه تميم من السفر، كان يدرس الطب، رغم أنه يحب الفن، لكن نصيحة أبيه جعلته يحجم عن دراسة الفن، فقد قال له حرفياً:” الفن لا يطعم خبزاً، وأنت تريد أن تبني عائلة مع الفتاة التي تحبها”، سمعتهما يستعيدا ذلك اليوم الذي تجاهل فيه تميم أحلامه، فأصبح رجلاً آخر غير نفسه.
بعد فترةٍ وجيزة من عودته، اشترى تميم بيتاً صغيراً، وفتح عيادة، وبدأ عمله، لكنه لم يجد تلك الفتاة التي كان أبوه يحدثه عنها، ولا هو قام ببناء عائلته الخاصة، كان يبحث عن نفسه التي أضاعها في تلك الفوضى، فكيف سيعثر على تلك إن لم يجد نفسه أولاً؟.
في ذلك اليوم، يوم ولادتي الحقيقية، مرّ تميم بمشغل أبيه، وفيما هما يرتشفان قهوتهما بهدوء، وقع نظر تميم عليّ في صدفةٍ صنعتْ قدري فيما بعد، فقام من مكانه، واقترب مني، تناول منديلاً، ومسح عن تفاصيلي غبار الاهمال الذي تراكم يوماً بعد يوم، ثم وضعني وبدأ يتأملني، بعدها أعرب عن اعجابه الشديد بي، بل إنه قال حرفياً إنني أجمل ما صنعه أبوه.
فما كان من الأب – ويا لسعادتي- إلا أن قدمني له، بعد أن أخبره بأنه كان قد نصب الفخ لفكرة خارج سياج التأويل، تلهو بفكِ جدائل الوقت المصلوب على مشارف الانتظار، فأتته بخطى متثاقلة، تحمل نعشها على كاهلها، وهي – وبنية مبيتة للانتقام- أسقطت عنها كل تلك المعاني التي كان في شوق ليسبر أغوارها. لكي تصله خاوية..دون معنى.
لم يغير كلام الأب المنمق من رأي ابنه بي، فأخذني بحرص إلى بيته، ثم دار بي ليجد لي مكاناً مناسباً، إلى أن استقر بي المقام على طاولة صغيرة في زاوية الغرفة، بجانب ضوء منخفض.
لكن قصتي معه بدأت عندما زاره أبوه وسأله: ألم تجدها بعد؟؟
فأشار تميم إلي بسبابته، وقال: إنها هناك.
* لبنى ياسين
من مجموعتي القصصية الأخيرة :”وابل من الخيطان”، الصادرة عن دار الشؤون الثقافية ببغداد ٢٠٢٣