مقالات

مستقبل الأدب العربي في إيطاليا: وائل فاروق

صدرت موسوعة ” تاريخ الأدب العربي” عن دار نشر “موندادوري” أحد أهم دور النشر الإيطالية، جاءت الموسوعة تتويجا لسنوات من الدراسة والبحث قام فيها المؤلفون بالبناء على التراث العلمي لكبار المستشرقين الإيطاليين من القرن الماضي وإعادة تقديمه في ضوء النظريات النقدية الأدبية الحديثة، دون أن يتجاهلوا الإنتاج الأدبي والشعري والمسرحي الجديد في القرن الحادي والعشرين. اعتمد مؤلفو الموسوعة في تنظيم المحتوى على التحقيب الزمني، والتزموا نهجاً تاريخياً علميًا لتتبع مسار تطور الأدب العربي.
يؤكد المؤلفون أن “الأدب هو محور النقد الأدبي، وهو علم يعتمد على التاريخ، والكلمات، وكذلك الأفكار والمفاهيم النظرية. إن دراسة الأدب هي وسيلة لفهم المجتمع، تجعلنا نعيش أحلامه ومآسيه من خلال الكلمات. نحن كدارسين نعيش ضمن تاريخنا الخاص، وننظر إلى الأشياء من خلال تجاربنا والسياق المحيط بنا، وهذا قد يكون ميزة، ولكنه قد يشكل أيضاً تحدياً. نحن نستفيد من رؤية الآخر، لكن هذه الرؤية تظل محدودة بتجاربنا الخاصة. ومع ذلك، ومن خلال التبادل المشترك، يمكننا أن نوسع رؤيتنا وفهمنا للعالم.” تشير هذه الكلمات للمشرفتين على مشروع الموسوعة فرانشيسكا كراو ومونيكا رووكو إلى أن غاية الموسوعة تتجاوز الأغراض التعليمية المرتبطة بتدريس الأدب العربي في الجامعات، كما تتجاوز الأغراض الثقافية المتعلقة بتقديم أدب جديد وغير معروف إلى القارئ الإيطالي؛ تتجاوز كل ذلك من أجل تحقيق هدف أسمي وهو التحرر من محدودية التجربة الثقافية الإيطالية الخاصة لتوسيع رؤيتها وفهمها للعالم، فالمواجهة بين الهويات المختلفة هي العنصر الحاسم في انتاج سردية للذات على المستوى الفردي والجماعي، والبحر المتوسط هو أقدم فضاءٍ، تاريخيًا وسياسيًا وحضاريًا، تشكلت داخله الهويات في إطار العلاقات الجدلية بين الذات والآخر. ومنذ آلاف السنين كان الأدب أحد أهم مظاهر إنتاج الهويات في فضاء المتوسط، حيث ظل ينتقل بين ضفافه ناثرًا بذور هوية متوسطية جامعة للثقافات التي تحتضن البحر العتيق من كل جانب.
صدرت الموسوعة في مجلدين كبيرين، يتضمن كل منهما 16 فصلاً موزعين على 4 أجزاء. يتناول كل جزء السياق التاريخي للظواهر الجمالية في الحقب المختلفة، يتناول المجلد الأول الذي يحمل عنوان “الأدب العربي: من العصر الجاهلي إلى العصر ما بعد الكلاسيكي” الأدب العربي (من الجاهلية إلى الخلافة الأموية) في الجزء الأول ، و(عصر الخلافة العباسية) في الجزء الثاني ، ويتناول الجزء الثالث (الأمراء، السلاطين والخلفاء في عصر السيادة المجزأة)، والجزء الرابع يتناول (العالم العربي في العصر ما بعد الكلاسيكي). بينما يتناول المجلد الثاني “الأدب العربي: من النهضة إلى الثورات وما بعدها” ويضم الأجزاء التالية: الجزء الأول (النهضة وتطور الأدب العربي حتى عام 1948)، الجزء الثاني (الأدب العربي بين 1948 و1991)، الجزء الثالث (الأدب العربي من التسعينيات إلى الألفية الجديدة)، والجزء الرابع (الثورات العربية وما بعدها).
يسبق كل جزء من أجزاء المجلدين مقدمة تاريخية تُمكن القارئ من فهم الأدب كفضاء للتفاعل النقدي مع السياق التاريخي والسياسي والاجتماعي الذي ينتمي إليه ويعبر عنه. تلي هذه المقدمة التاريخية فصول يتم فيها تحليل التيارات الجمالية وأهم مؤلفيها. تتيح هذه الدراسة التفصيلية لمرحلة أدبية ما فهم خصائصها العامة، دون إهمال السمات المميزة للمؤلف الواحد وحتى النص الواحد، كما تمكن القارئ من تتبع تطور النوع الأدبي في فترات زمنية مختلفة، وفهم الخصائص المميزة للأشكال الشعرية والسردية والدرامية.
تضم الموسوعة قوائم متكاملة من الدراسات المستفيضة والسير الذاتية للأدباء العرب، كما تتضمن صورًا وخرائط، بالإضافة إلى كل هذا ولمن يرغب في التعمق أكثر في أحد فصول الكتاب يتم توفير قراءات موسعة عبر روابط تقود إلى مواقع تتوفر فيها دراسات أكثر شمولًا إلى جانب ترجمات جديدة أو ترجمات قد سبق نشرها للأعمال الأدبية، وكل ذلك مدمج في النسخة الرقمية للموسوعة، والتي يمكن الوصول إليها من خلال أيقونات مرجعية في نص الموسوعة.
في نهاية كل جزء، يتم تقديم قاموس يشرح بإيجاز بعض المصطلحات المتعلقة بالأنواع والأشكال النصية، وكذلك المصطلحات التقنية. كما تم توفير فهرس للأسماء، وجداول زمنية تدرج الأحداث الأدبية والفنية-الثقافية والتاريخية للثقافة العربية بالتوازي مع تلك الخاصة بالثقافات الأخرى (خاصة الأوروبية)، مما يوفر نظرة شاملة على القرون التي يتناولها كل جزء.
تكشف هذه البنية الاستثنائية للموسوعة حجم الجهد المبذول فيها لتقديم رؤية شاملة للأدب العربي، رؤية مغايرة تماما للرأي السائد في أوروبا الذي يعتبر أن الأدب العربي بعيد كل البعد عن الأدب الغربي، وقد لا يخطر ببال واحد من ألف من قراء الأدب الأوروبي أن لهذا الأدب علاقة بالأدب العربي، فقد استقر في الأذهان، أن الأدب الغربي ترجع أصوله إلى الأدبين اللاتيني والإغريقي، وقليل من المستشرقين والباحثين يرى في الأدب العربي أصلًا من أصول الآداب الأوروبية الحديثة، كالمستشرق الإنجليزي هاملتون جب الذي يؤكد أنه: «في آخر القرن الحادي عشر ظهر فجأة طراز جديد من الشعر الغزلي في جنوب فرنسا، كان طرازًا جديدًا في موضوعه وفي أسلوبه ومعانيه، ولم يكن لهذا النوع من الشعر أساس في الأدب الفرنسي القديم: وهو يشبه الشعر الأندلسي شبهًا قويًّا جدًّا، إذ هو ضرب من الموشحات والأزجال الأندلسية الغنائية التي تدور موضوعاتها على الغزل والحب العذري. ثم يتساءل: أليس من المعقول إذن أن نرد هذا الضرب من الشعر الفرنسي الجديد، إلى الشعر العربي الأندلسي، وخاصة إذا علمنا أن نظرية «الحب العذري» التي يدور عليها هذا الشعر الفرنسي الجنوبي، ليس لها أصل في الأدبين اللاتيني والإغريقي؟ وليس الأمر مقصورًا على الشعر الفرنسي، ولكن الشعر الإيطالي أيضًا تأثر تأثرًا قويًّا بالشعر العربي في صقلية، وخاصة في عهد «فريدريك الثاني» الألماني.
تمثل هذه الموسوعة إضافة حقيقية للحضارة الإنسانية اليوم، فهي بكشفها عن تجذر الآخر في هوية الأنا تفتح أفقًا جديدًا للإبداع العربي فلا يمكن لثقافة أن تبدع جديدًا إذا كانت منعزلة عن محيطها الحضاري، وهي تقدم كذلك أساسًا متينًا تقوم عليه المدن الكوزموبوليتانية في الغرب حيث لا مجال للتعددية في الفضاء العام ما لم يكن هناك إدراك ووعي بالتعددية في فضاء الذات. وهو ما يجعلني أن أقول في النهاية إن صدور هذه الموسوعة ليس جسرًا جديدًا بين ضفتي المتوسط وإنما هي جسر نعبر عليه نحو المستقبل.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إغلاق