مقالات

طال الانتظار! روز اليوسف شعبان

طال الانتظار، حسبته قادما مع أسراب الطيور، أو ربّما يمتطي غمامة بيضاء، تبدّد وحشة ليلي، وتزيل غمّي، لكنّه لم يأتِ..
وقفت أمام البيوت الخاوية، إلّا من صدى الأنين، وصلاة طفل شُرّد من طفولته، قبل أن يعيَ معنى التشريد والضياع، اخترقت صلاته شغاف قلبي، أنصتُّ بلهفة المشتاق لقطرة ماء، ورجاء طفلة لرغيف خبز، ولوعة أمّ ثاكل، أثخنتها الجراح، وعصفت بها النوائب.
ردّدت الدعاء معه، وما أن انتهى منه؛ حتّى زاغ عن بصري كأنّه لم يكن.
سرت تائهة في دروب خالية إلّا من نعيق الغربان، ورائحة الموت المنبعثة في كلّ مكان.
سددت أنفي بيدي، علّي أتخلّص من رائحة الموت، لكنّها كانت أقوى من يدي الصغيرة، شعرت بالغثيان،صداعٌ قويٌّ بدأ يضرب بأكفّهِ في رأسي، بدأت أركض بين الركام، أتعثّرُ بكلّ ما تدوس عليه قدماي، حتى وجدتني أقف على ناصية الطريق، أنتظر قدومه.
كان قلبي يحدّثني أنّه قادم لا محالة، تمنيت أن يكون بصري حادّا كزرقاء اليمامة، فلعلّي أراه قادما من بعيد!
ملّني الانتظار، قال لي: عودي من حيث أتيت! فأنا لا أحمل لك ما تبغين.
قلت: ضللت الطريق، أو ربّما أضلّني، لا أعرف طريق العودة، لا أذكر بيتي، ولا مدرستي، ولا حتّى من أنا.
قال: مسكينة أنت، انتظري إذن، فقد تتذكّرين.
حاولت أن أستجمع ذكرياتي، كانت مبدّدة، تبتعد تارةً وتقترب تارة أخرى، تبدو باهتة أحيانا، وشديدة الوضوح أحيانا أخرى، بدأت أجمع قطع ذكرياتي فلعلّي أنجح في تركيب لوحة البازل التي تفرّقت قطعها رغما عنّي. فمن يساعدني في إعادة بنائها؟
ظننته قادما، فلربّما يعينني على جمع ذكرياتي، لكنّه لم يأتِ..
وجدت نفسي، ألملم شتات ذاكرتي، هناك كانت مدرستي، الله كم أحببتها! كم أشتاقها! صوت الجرس يخترق شغاف قلبي، أرى نفسي واقفة في طابور الصباح، أنشد مع زملائي النشيد المدرسيّ، أقبل على التعليم بشغف، ألعب مع رفيقاتي ورفاقي في ساحة المدرسة، نركض… نتسابق في ردهاتها.. نغنّي.. نتعثّر؛ نسقط، وننهض من جديد.
مالي لا أراها؟ كيف اختفت معالمها؟ أتراني فقدت بصري دون أن أعلم؟
أطلّت القطعة الثانية من ذاكرتي، ساحة ضيّقة، لكنّها كانت تتّسع لشقاوتنا وفرحنا، كنت وأصدقائي نلعب شدّ الحبلة، الحلجة، لعبة البدريس، طاق طاق طاقية….أين هي؟ لماذا لا أراها هي الأخرى؟
ثمّ جاءتني القطعة الثالثة، ترفل بالفرح، إنّها أسرتي الحبيبة، موطن سعادتي وهدوئي، ومبعث أحلامي، أين اختفت؟ هل أضعتها؟ أم أضاعتني؟
حاولت أن أسترجع باقي ذكرياتي التي غابت عنّي، لكنّي لم أفلح.
تابعت سيري، لا أدري أين ستقودني قدماي، لكنّني على ثقة أنّه سيأتي وسيجدني، أو ربّما سأجده أنا، وإن طال الانتظار!

روز اليوسف شعبان
9/9/24

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إغلاق