عرفت المرحوم أبو القاسم محمد كرّو(ببناء أبو على الرفع بالواو كما أحبّ) – أو » سي بلقاسم « كما كان أصدقاؤه وأحبابه ينادونه – معرفة شخصيّة مباشرة في أواسط سبعينات القرن الماضي، وتوطّدت علاقتي به في الثمانينات، واستمر تواصلنا إلى ما قبل وفاته بسنوات قليلة. وكنت قد سمعت عنه وعرفت بعض ملامح شخصيته الفكرية والأدبية ومنزعه السياسي منذ أواسطا الستينيات عندما كانت تصلنا – أنا وزملائي في المدرسة الثانوية : معهد ابن شرف بالعاصمة – أخبار أساتذتنا وسائر الأساتذة المتخرّجين في الجامعات المصرية والسورية والعراقية واللبنانية من ذويالأصول الزيتونية.
وكان هؤلاء الأساتذة محلّ تقديرنا بل إعجابنا ، لانهم تمكّنوا، وهم الزّيتونيون، من تعليم جامعي عصريّ ومن »فرض أنفسهم« في الحياة الوطنية وخاصةً في مجال التّدريس، رغم مناوأة الحكم البورقيبي للزّيتونة والزّيتونيين وإلغاء التعليم الزّيتوني بقانون 4 نوفمبر 1958 في إطار »توحید التعليم « الذي كان أحد شعارات دولة الاستقلال. وكان أبو القاسم محمد كرّو من أبرز هؤلاء الخريجين في الجامعات المشرقية ومن أكثرهم صيتا، بفضل ما أولاه من اهتمام عظيم لشاعر تونس الكبير أبي القاسم الشابي ثمّ للمفكر المصلح الطاهر الحدّاد، وكذلك بفضل نشره لسلسلة »كتاب البعث«التي كانت أعدادها ذات العناوين الجذابه البليغة المؤثرة واجهات الكتبيّات الكثيرة العريقة سواء في ما حول جامع الزيتونة أو في باب سويقة أو في شارع بورقيبة والأنهر المتفرّعة منه. وعبر ما نشرته هذه السلسلة الرّائدة، أمكن للتونسيين التعرف على بعض أعلام الفكر والأدب والثقافة في بدايات الاستقلال، مثلالمرحومين عثمان الكعاك والطاهر الخميري الصادق مازيغ ومحمد مزالي…
لقد فتح أبو القاسم محمد كرّو، بهذه السلسلة الرّائدة، الباب أمام الأقلام التونسية لتشارك في الكتابة والتأليف باللغة العربية في مواضيع جديدة أملتها ظروف بناء دولة الاستقلال، ولتسهم في الثقافة العربية التي كانت في حاجة إلى كلّ روافدها الوطنية لتنهض وتتطور وتقوى. وكان صدور هذه السلسلة – كتاب البعث – وانتظامها خلال عدة سنوات، دليلاًعلى أنّ » في بني عمك رماحًا «كما كان يحلو للمرحوم محمد مزالي أن يردّد كل ّما جر الحديث إلى إبراز مكانة تونس ودورها المهمّ في الثقافة العربية.
ولعلني قابلت أيضا الاستاذ أبو القاسم محمد كرّو في إحدى الأمسيات الشعرية التي كان أستاذناالشاعر المحبوبالميداني بن صالح ينظّمها بالمدرسة الثانوية (معهد ابن شرف) ويدعو إليها شعراء تونسيين كبارا ًمن الذين كانت تضّمهم » رابطة القلم الجديد « التي كان ترأسها في فترة ما الشاعر المرحوم عبد المجيد التلاتلي الذي لم يعد يذكره أحد !!
في أواخر أكتوبر 1965 – وأنا في سنتي الأولى بكليةالآداب – اندلعت »معركة« على صفحات جريدة »العمل« لسان حال “الحزب الاشتراكي الدستوري”، الحزب الحاكم، وقبل أن يتحوّل مع زين العابدين بن علي إلى” الحزب لدستوري الديمقراطي”. وكانت هذه»المعركة«، بين أبو القاسم محمد كرّو والشاعر الشاب حينئذ جعفر ماجد، بسبب مقالة كتبها الثاني) الشاعرجعفر ماجد ) ويبدو أنّه ردّ فيها على مقالة أو موقف للأوّل (سي بلقاسم)، معتبرا إيّاه » متمشرقاً« أي مواليا للمشرق العربي وثقافته على حساب الذّاتية التونسية والثقافة الوطنية . وقد إحتدم الجدل بين » سي بلقاسم« المتخرّج في كلية التربية بجامعة بغداد والشاعر جعفر ماجد المتخرّج من الجامعة التونسية الناشئة والدّارس على خريجيّ جامعة السوربون . وشارك في هذهالمعركة مثقفون عديدون ، لكنّ حماس» سي بلقاسم « للدفاع عن هويته ووطنيته وعروبته كان حماساً منقطع النظير، كما كان ردّه على »الفرنك وفونتيني « المتغرّبين ردًّا عنيفا. وقد اعلمنا الأستاذ المجتهد أنس الشابي أنّه وثّق هذه المعركة وأنّها ستصدر قريبا عن “دار أركاديا للنشر” ضمن كتاب له بعنوان: “معارك المفاهيم في تونس ما بعد الاستقلال”.
لم تكن معركة » المتشرف والتنفير/ التّغريب « في الحقيقة، إلّا انعكاسا لما كان من خلاف وتعارض بين تيّارين ثقافيين بل سياسيين يشقّان الحياة الوطنيّة التونسية: تيّار مهيمن رمزه الرّئيس بورقيبة الذي اختار بناء الدّولة الجديدة على المنوال الغربي واعتماد اللغة الفرنسية لغة للتعليم والتنمية ، وتيّار يسير نحو الضعف هو تيار الأصالة المتمسك بالمرجعية العربية الإسلامية والذي تتمثل رموزه في جامع الزّيتونة الذي أوقف قانون 4 نوفمبر1958 وظيفته كمؤسسة تعليمية وفي العديد من خرّيجي هذا الجامع وخرّيجي الجامعات المشرقية فى اختصاصات أدبيه وعلميّة.
لقد أصبح التعارض بين هذين التيارين: “العصريالمتغرّب“ و“الأصيل المتجذر “ في هويته الوطنية العربية الاسلامية تعارضاً واضحا، خاصة بعد تكرّر الخصومات بين الحكم البورقيبي وبعض دولا لمشرق وخاصةً النظام الناصري لاسيّما بعد عودة بورقيبة في ربيع 1965 من زيارته إلى بعض الأقطار المشرقية وخطابه في أرياح وما تلا تلك الزّيارة من تهجّم على الزّعيم التونسي بسبب الآراء التي صرّح بها بخصوص ما يراه من حلّ للقضية الفلسطينية. وفي هذه الظّروف حصلت مضايقات للزيتوني وخرّيجي الجامعات المشرقية، بل إنّ بعض الدّراسات والشهادات تتحدث عن » تصفية حسابات« قام بها الحكم البورقيبي مع »غرمائه« الزيتونيين المتهمين بمساندة صالح بن يوسف.
وقد نجح أبو القاسم محمد كرّو، في خضمّ هذا الصراع الثقافي السياسيّ، في البقاء متمسّكا بهويته العربية الجامعة تمسكه بهويّته التونسية . وكان لايرى، كما صرّح أكثر من مرّة، أي موجب لمعاداة الدّولة الوطنية أو محاربتها ما دامت قائمة بوظائفها، لذا إنخرط ما أمكنه في دواليبها الثقافيّة أساسا، متسلحاً بالحكمة والكياسة والمرونة لتحقيق ما أمكنه من مشروعه الثّقافي، دون التنازل عن مبادئه وقيمه ودون أن يخفي توجهاته العروبيّة والوطنيّة أو ينزلق لأي كان … مهما كان!!
كانت لـ» سي بلقاسم «علاقات كثيرة مع أعلام الأدب والشعر والفكر والتاريخ والصحافة والإعلام ومع المجمعيين وكثير من السّياسيّين مشرقًا ومغربًا، وكان كثير الحفاوة بهم كلما زاروا تونس ، كما كان مجلسه بمقهى فندق أفريكا بشارع بورقيبة بالعاصمة يعيد مغرب جلّ ايام الأسبوع مجلساً حافلاً بالمحامين والأدباء والصحافيين الشيوخ منهم والناشئين ، كما كان يحضّره بعض ضيوف تونس الكبار. وفي هذا المجلس اتيح لي أن أتعرّف على غالي شكري وعبد الوهاب البياتيّ وغيرهم من أحبابه وأصدقائه الكثيرين. ولم يكن » سي بلقاسم «يج امل أكثر من اللازم أو يقبل» الجهل « أو ادّعاء المعرفة وامتلاك الحقيقة، لكنه كان لبقاً وحازماً معاً في ردوده و تعقيباته وتصويباته. لقد كان موسوعة في مجالات الثقافة العربية وتاريخ العرب الحديث بما فيه تاريخ تونس والمغرب العربي بطبيعة الحال، بل كان » مؤسسة ثقافية « لا يمكن للمرء أن يتجاوزها في مجالاتها و » سلطة« لا مناص من التسليم بها. وكان » سي بلقاسم «مهتماً بالتراث ولاسيما العلمي الإفريقي منه، وموثقا دقيقا، و قارئا نهماً ، ومستمعًا منتبهاً ، لكنه كان – مع ذلك – عقلانياً إلى حدّ كبيرً ومُعجبًا بالعلمانيين والعقلانيين العرب القدامى وفي مقدّمتهم أبو العلاء وبالمحدثين ومن أبرزهم لديه طه حسين.
كان » سي بلقاسم «، زينة المجالس حيثما حلّ، وكان يحبّ أن يكون مفيدا نافعًا، مؤثّرا، ناشرًا لما خفي من المعلومات والحقائق عن أعلام قفصة وتونس والمغرب العربي وحركات التحرر والتجديد والتنوير العربية في مختلف المجالات وعن أثر التونسيين خاصةً والمغاربة عامةً في المشرق العربي وخاصةً في عهد النهضه العربيه الحديثه. وكان بقدر حرصه على إبراز علاقة تونس بمحيطها المغاربي والمشرقي والإسلامي حريص أيضا على إبراز الإسهامات التونسية الكبيرة في نهر الثقافة العربية ، ومن هنا نفهم ولعه الشديد بالبحث والتأليف عن أعلام تونس في مصر وبلاد الشام والعراق، وعن الأعلام المشارقة في تونس. إنّ هاجس وحدة الثقافة العربية كان مستبدًّ ا بـ» سي بلقاسم«، لكنه لم يكن لا » متمشرقا «ولا » متغربا«.
كان متأص لا في هويته العربية انطلاقاً من هويته التونسية التي يعتز بها الاعتزاز كله لأنها هوية مبدعة معطاء عبر العصور.
في أواخر السبعينات وخلال الثمانينات أتيح لي أن أشارك، بدعوة من »سي بلقاسم «أساسا، في بعض الملتقيات الجهوية العديدة التي كانت تنظّمها اللجنة الثقافية الوطنية (ومقرّها في شارع الحركية في مابين دار الإذاعة وساحة باستور) المأسوف عليها :لتقى ابن منظور بقفصة، والقلصادي بباحة، وابن العوّام بجندوبة ، وملتقيات أخرى بزغوان وغيرها. وكان » سي بلقاسم « – الذي لم يكن لا رئيسا للجنة الثقافية الوطنية ولا كاتبها العامّ – بل مهندس هذه الملتقيات والقائم على تدبيرها من ألفها إلى يائها، تساعده اللجان الثقافية الجهوية التي» ذهبت مع الرّيح« الآن، وبعض الموظفينالطيبين منهم السّيدأحمد غلاب الذي كان مجتهدا مستوعبا لمقاصد » سي بلقاسم « وخطة عمله. وقد حققت هذه الملتقيات الجهوية نجاحا كبيرا سواء لكثرة الحاضرين ونوعيتهم أو لما بثه من روح معنوية ايجابية في أبناء الجهة لاسيما إذا كان موضوع الدّورة ذات صلة بأعلامهم وتراثهم ومشاغلهم الجهوية
إن لــ» سي بلقاسم «، فضلاً كبيرًا على الثقافة العربية والتونسية فى مجالات التراث ، والإبداع ،والبحث والتأليف، والتحقيق، والتوثيق، والنشز ،وتصحيح الأخطاء وتصويب المفاهيم، ونشر قيم التنوير والحداثة والفكر النّقديّ وتحريك سواكن الثقافة مركزيّاوجهويّا، وتسجيل الحضور التونسي على الصعيد العربي، وربط علاقات التعارف والأخوّة والتعاون والعمل الجماعي بين المفكرين والمبدعين وطنياً ومغاربيّا وعربيّا، و المراهنة على الشباب وتربيته على الوطنية والعروبة والاعتزاز بهما والذود عنهما، وتشجيع الأجيال الجديدة من المبدعين والكتاب والباحثين. ..
کا ن المرحوم أبو القاسم محمد كرّو (سي بلقاسم) “نجماً ساطعا في سماء الثقافة العربية والفكر العربي“ على حدّ عبارة الشاعر الأستاذ عبد السلام لصيلع ، وكان نموذج المثقف الذي تحتاج إليه بلادنا لتبني ثقافة أصيلة، حداثية ، تقدمية ، تحميها منالهزات والانتكاسات، وتخلصها من التخلف، وتضعها على درب التنمية الحقيقية الشاملة . وكان أبو القاسم محمد كرّو مفكرا ومناصلاً ثقافياً تقدّميا، مستنيراً ،مقداما، مخلصاً للوطن وللأمة ، مرتبطا ارتباطا عضوياً ،منذ صغره وإلى آخر رمق في حياته، بقضايا شعبه وأمته . اليس هو القائل في ديوانه الأوّل “كفاح وحب”:
حياتي، نضال لوحدة العرب
وعمري، كفاح لعزّ موطني
أما لساني، فتسبيح بمجد امتي
ذلك هو »أنا « !
عربيّ اليوم ، وعربي الغد.
رحمك الله يا أبا القاسم .
نبذة عن الكاتب :
عبد اللطيف عبيد أكاديمي ولغوي وسياسي تونسي.
شغل منصب الأمين العام المساعد لجامعة الدول العربية ( سابقا) | |
---|---|
تولى المنصب 11 مارس 2014 |
|
شغل منصب وزير التربية التونسي | |
تولى المنصب 11 مارس 2014 24 ديسمبر 2011 – 13 مارس 2013 (سنةً واحدةً وشهران و17 يومًا) |
الأستاذ/ أبوالقاسم محمد كرو
لمحات عن حياته وأعماله العلمية :
- أبوالقاسم محمد كرّو.
- من مواليد مدينة قفصة (الجنوب الغربي من الجمهورية التونسية) عام ٤٢٩١.
- حصل على الإجازة في الآداب العربية (دار المعلمين العالية) بغداد ٢٥٩١، ثم المرحلة التحضيرية من الدكتوراه – في جامعة الجزائر ٥٧٩١.
من مؤلفاته:
– له أكثر من ستين كتابًا مطبوعًا وعشرين مخطوطًا.
- من المؤلفات التي اشترك فيها ٣٣ كتابًا.
- له من المؤلفات الصغيرة: ٨ كتيبات.
- له أكثر من مائة دراسة وبحث، نُشرت في كتب مشتركة وفي المجلات التونسية والعربية.
- له حوالي ألف حديث إذاعي وألف مقالة منشورة في الصحف والمجلات التونسية والعربية.