مقالات
ركامُ أحاسيس ..رياض الصالح
لقد كان لقاؤنا عذباً يا صديقي كما الأيام الخوالي، يبدو أننا في زمنٍ صار يستسقي العذوبة المفقودة من التنقيب في ركام الذاكرة .. وهيهات لنا ذلك يا صديقي.. فاستحضار مشاعر صورة حقيقية من ذلك الركام أصبح مشكوكاً في مصداقيته خاصة بعد مئات التشققات التي أصابت المرآة وعشرات الشظايا التي لا زالت عالقة بشكل أو بآخر، كما شوّه صفاءها غبار طريق طويل مزدحم ..
حتى أنني صرت أخشى على صورة ما نحن عليه اليوم، بما فيها وما عليها، بعد أن يسحقها الزمن ثم يرميها كما رمى غيرها من قبل لتصير ركاماً فوق ركام .. فلا نمتلك حينها القدرة للعثور على أي ملمح جميل من ملامحٍ كنا نزهو بها أضاعتها بعثرةُ النسيانِ الطاغي .. في متاهات أكوامِ الركام المُتَلَبّدَة ..
يبدو أننا من معاشر الحسّاسين يا صديقي .. ويبدو أنّك لا تعلم أنّ رهافة الحسّ أصبحَت تهمةً مقيتةً في عصر اللا أحاسيس .. فبالأمس مثلاً .. هنّأت أحد الأصدقاء بسلامته بعدما ألَمّت به وعكَةٌ قلبيّة طفيفة جرّاء نوبَة غضَبٍ عابرة، حتى قطع التهاني تدخُّلٌ لأحد المتقنين لهجة العصر الفكاهيّة، ليهزأ بصاحبي مازحاً ومطالباً طفلَه الصغير أن يُسَلّم على هذا العم الحساس!! لتتناثر الاستهزاءات والتهكمات المغلفة بالضحك والابتسامات المجاملة، متغافلة عن حجم الألم الذي عانى منه هذا الشخص ومستهترةً بضخامة المشكلة وتبعياتها ..
حياتنا يا صديقي تطالبنا بادعاء ما لسنا عليه، فلا تتقبل الحساسين البائسين، ولا الحزانى المكتئبين، ولا أولئك المستسلمين لمشاعرهم الحقيقية، ترغب برؤية ابتسامة ثغرك حتى لو رسمتها أيادي النفاق والتملق، وتدعوك لارتداء لون القوة والسيطرة ولو كان مجرد قناع واه متغير حسب ألوان البشر، فلا تكشف العورات إلا بليل الخفاء البهيم المعتم .. حيث يكون الظلام رفيقاً مخلصاً لتلك الدموع المتوارية نهاراً أمام بقية العيون، ويكون الهدوء محفزاً للنشيج الذي يخجل من مخالطة الصخب، فلولا ذلك الليل يا صديقي لما تذكرنا نحن البشر، تلك المشاعر التي تضفي علينا صفة الإنسانية ..
لعلك يا صديقي تتساءل عن الفجوة التي فرقتنا سنيناً .. أعلم أنك لم تتوقع أن تصقلنا الأحاسيس بهذه الجودة أثناء تفاعلها في معادلات الكوكب الكيميائية .. كان لقاءً صادقاً مفهوماً دون تورية .. بعد أن أصبحتَ مثلي متمرداً على الطباع البشرية المتوارثة ..مخالفاً للسرب في كل اتجاهاته…. لتعود مثلي إلى التعاليم التي ساقها لنا الكون تباعاً بعدما أدركتها أحاسيسنا ،، فلا أريدك أن تقلق أو تشغل بالك بأحوالي، فأنا قد تجاوزت كل هذا الضغط .. صارت خصائص الجمادات الي اختبرتها في وحدتي، هي أكثر وضوحاً، وأجمل حضوراً، وأطهر صدقاً..
صدقني يا عزيزي أنني ارتحت كثيراً وأنا أراقب وأتعلم صلابة الحجارة حتى غدوت أشد منها صلابة، كما اختبرت ليونة الماء حتى فقتها مرونة، وصهرت الحديد حتى صرت أقوى منه بأساً، وكم ألهبتني النار حتى امتلأت لهيباً وحماسة ورغبة بارتداء النور، فلا النهار يدفعني لادعاء ما لست عليه، ولا الليل يغريني لخلع أرديتي، أو كسر أوعيتي، لا شيء ينافس ألق الفجر الساطع في نظري إلا تلك الجرأة على الوضوح الذي لا يخشى شيئاً ولا أحداً ليواجه ظلام الكتمان وسلامة التورية وقسوة الحقيقة، وهذا صار منهجي يا صديقي..
أعلم أن التهاب الحس داءٌ مُضجِرٌ يُشبِهُ رعونةَ صغارِ القطط المدعوسة تحت عجلات المركبات السريعة وغيرِ العابئة بالرُعْنِ والحمقى .. وأعلم أن سمفونية الحياة الجميلة غدت كألحانٍ عشوائيةٍ مبعثرةٍ متدرّجَة القوةِ في أحاسيسِها، تتجمّعُ بتنسيقٍ عجيبٍ في دماغٍ واعٍ حذرٍ من التأثّر بهِنات تلك الأحاسيس المبعثَرة .. لتُشَكّلَ معزوفةً تستحقُّ التصفيقَ والتقديرَ وتستحثُّ المشاعرَ لتُزهِرَ أحاسيسَ جديدةٍ ملائمةً للموقفِ ببلاهَتِهِ وبلاهَتِها، دون التعرّض لإحساسٍ قاتِمٍ أو انتقاءٍ لشعورٍ من قواميس المشاعر البائسَةِ اللانهائية في حياةٍ حتميّة المرور ، مزيجٌ متفرّد يستحق أن توضع سماعته على أذن مراهق متحمس ليستثارَ جسدُهُ على الاهتزاز والدندنةِ برقصةٍ عفوية وثغرٍ باسِمٍ تدعوه للتركيز على ما بين يديه وتجاهُلِ أي إحساسٍ تافِهٍ حوله ..
# بقلم
# رياض الصالح