لا يعلم مراد الله إلا الله، وإذا أراد الله سبحانه وتعالى أن يفتح للإنسان أبواب معرفة لينال شيئاً من بحار هذه المعرفة فلا رادَّ ولا صادَّ لإرادته جلَّ وعلا.
تهز مشاعر الإنسان أحياناً مطلوباتٌ حيال بعض المواقف فيُجَلِّي الله له من معاني تلك المواقف ما يجعل عقله في مستوى قدرة الاستنباط ، وتنداح دقايق خيوط عمق الغوص لتُسْفِرَ عن الجديد المفيد .
إن قول الله سبحانه وتعالى في سورة (الماعون) [ أرأيت الذي يكذب بالدين (١) فذلك الذي يدع اليتيم (٢) ولا يحض على طعام المسكين (٣) فويل للمصلين (٤) الذين هم عن صلاتهم ساهون (٥) الذين هم يراءون (٦) ويمنعون الماعون (٧).]
من ينشد التعمق والتدبر في هذه الآيات السبع يرى محورها يدور حول الصلاة …. عماد الدين ، وصفوة أركانه. إن الصلاة إقامةً وليس أداءً ، ونحن نعلم الفروق بين الإقامة وبين الأداء، فهي جماع الاستقامة ، وجوهر الطاعات ، فمفتاحها تكبيرة الإحرام ومن ثم الدخول مع الله سبحانه وتعالى في حديث هو إقرار من العبد بالقرب، وقرار من المولى ّجلَّ شأنه باعتماد القبول. يقول العبد : الحمد لله، فيقول الرب: حمدني عبدي، وهكذا إلى نهاية الفاتحة ليُتَوَّجَ اللقاءُ بِعَقْدِ شَرَفٍ واجب الاحترام.
عندما عدَّدَت هذه السورة العظيمة بنود العقد مستندة إلى صدق العهد فهي بذلك قد عبَّدت الطريق إلى واحة الطاعات ، ولكن الذي يقع موقع الحال في كثير من الأحوال خلال الحياة اليومية فهو مناقض لبنود العقد ، فالسلوك فيه تكذيب بالدين ، ودفع وإهمال لليتيم ، وإعراض عن الصدقة ورعاية الفقير والمسكين، والعيش في خضم حياة دستورها المراءاة والنفاق، وكل ما هو على نقيض عقد الصلاة الميمون، وبهذا فقد ارتدت الصلاة ثوب النسيان ، وسها صاحبها عن العهد والعقد ؛ ولو أننا توقفنا عند الحرف (عن) لأدركنا دوره المحوري في السورة، فالله جلَّ شأنه لم يقل : في صلاتهم بل قال : عن صلاتهم ،فالأمر إذن لا يأخذ بالسهو أثناء الصلاة، ولا بالسهو عن الالتزام بوقتها المعيَّن لها، بل يأخذ به أثناء ممارسة الحياة اليومية المفعمة بنقض العقد المبجل الميمون الذي أُبرِم أثناء الصلاة، فانظر أيها القارئ العزيز إلى عظمة أداء الحرف (عن) حيث دلَّنا على نقض بنود العقد خارج الصلاة وخلال المعاملة اليومية ، وبهذ الفهم نخرج من حرج الحرف (في)وضيقه الذي لو احتل مكان (عن) لأورثنا الويل والعذاب متى ما أصابنا السهو أثناء صلاتنا. الأمر قد أضحى الآن واضحاً ، ،ربٌ رحيم لم يورد الحرف (في) كما يتصوره كثير من القراء رغم غيابه بل هو الحرف (عن) ليذكرنا برعاية عقد الصلاة خلال حياتنا اليومية، ويظل مراد الله في طيات علم الله مكنون ، والصلاة والسلام على رسول الله الأمين.