لست من الجيل القديم الذي عرف القرية بأدق تفاصيل الماضي، و لعلي لست المؤهل للحديث المنصف عنها
و الذي يلامس الحقيقة و يصف ما يختلج في النفوس بأنسب العبارات و أدق التعبيرات، إلا أني قد أدركت
– كما تراءى لي – بعض مظاهر الجمال البهية و بعض انفاس الحياة التي تعبق برائحة الأجداد الزكية.
ليست شرفات هي العالم لكنها العالم القابع في قلبي، ليست هي أركان المعمورة لكنها الأركان المكونة لطبيعتي و نفسيتي و كياني، أرى نفسي في هدوئها و عزلتها أراها في شموخها وإشرافها أراها في عراقتها و تراثها
و خضرائها.
فإنها لطالما لاحت لي من بين طيات الذكريات العابرة لوحات كثيرة تتزاحم في الخيال و كأنها قد رصت متوالية في معرض رسام لم يتخصص الا بها و لم يبدع الا لها.
لقد رسمها لحظة الغروب عندما كانت أسراب العصافير تتراقص مجتمعة على أشجار الأحراش تغرد الألحان
الصاخبة و كأنها تعقد مجلسا مزدحما و مضافة مكتظة تتبادل فيها الآراء وتتجاذب فيه الأحاديث حتى تغيب
الشمس فينفض المجلس و يحل السكون.
في هذه اللوحة ترى رعاة الغنم قد ظهر فيهم جمال الروح بين ضحكاتهم و أحاديثهم و مشاعرهم فقد أقبلوا من أرض ينبت فيها جمال البراري و لمحة النقاء، تسبقهم أصوات الأجراس المعلقة على أعناق الأغنام حتى تعلق
هذه اللوحة في الذاكرة بالصوت و الصورة، فما أن يصلوا إلى مشارف القرية حتى يتفرق القطيع و تنقاد كل مجموعة خلف راعيها متواعدة باللقاء صباحاً لقضاء يوم جميل.
اما لوحة المساء فكانت ترسمها المشاعر الدافئة التي كان يتبادلها الأشقاء و الأحباب عند اجتماعهم على مائدة
فيها حصاد الفصول و عصير العقول لا يهمهم برد الليالي و لا صقيع الشتاء، فالكوانين موقدة،و المحبة مشتعلة.
و لوحة الصباح نسمة باردة تهب عبر الوديان و من بين الجبال محملة بعبق الحنون و الزحيف و الزعتر، تفوح من تلك اللوحة رائحة الطابون و طعم الزيت و الزيتون و ماء الآبار و العيون و صوت الشنار و الحسون.
ستبقى شرفات بمعانيها إلهاما لكل ما أحتاجه من الصفات فهي الجمال الخلاب و الطبيعة العذراء الصافية و
العطاء الغزير، هي البدرية في شموخها على سفح الجبل عالية عن الأحقاد، متربعة على عرش الجمال، متزينة
بالبلوطة التي صاحبتها عبر السنين الطويلة و شاركتها الاحداث العظيمة ، تجاور الشعب العتيق و العتاقة تعني الثمين و القديم و الجميل و كل هذا في شرفات.
قد يغير الزمان بعض أوصافك ايتها القرية الوادعة و قد يغزو شعرك الجميل بعض شيبات التمدن لكن اسماء
النواحي في كل زاوية فيك تحيي فينا شكلك الأصيل كلما ترددت على الآذان، ،كما هو الحال كلما ذكر اسم من
أسماء أبنائك الأوفياء على لسان ما، لتنبعث القصص من معين الذاكرة و تتضح الصورة أكثر يا أم الشهداء و بلد الأوفياء، و نبع الكرم و العطاء.
نتباهى دوماً بعراقة أصلك، و مداد سيرة دهرك، و طيب ذكرك، حتى بذلك الثرى الذي ضم رفات الأولياء، و أجداث الشهداء، و آثار المجاهدين، يا قصيدة الشعراء، و حديث الأدباء، و أرض العظماء، فأنت ابنة فلسطين و
من مثل فلسطين، سينتهي الحاقد كما بدأ و تبقين أنت كما أنت، الذاكرة و الدين و التاريخ.
# رياض الصالح
# برنامج بمشاركتي عن القرية من موقع القدس البوصلة
https://www.instagram.com/tv/CeWhMI9jBsE/?igshid=YmMyMTA2M2Y=#
