مكتبة الأدب العربي و العالمي
حكاية #التّفاح_الحباري الجزء السادس
اعطى السّلطان الحمامة قمر لحكيم الزّمان ،وطلب منه إخفاءها عنده ،ثمّ أخذ واحدة أخرى تشبهها وأصبح يحملها معه أينما، ذهب .وكان يعرف أنّ سميّة ستشكّ أنّه عرف الحقيقة ،وستحاول أن تتخلص من الحمامة بكل الطرق .دفع مالا لأحد جواريها ،وأوصاها بمراقبة حركات سيّدتها ،قالت سميّة في نفسها :كأنّه يحسّ بوجود سرّ وراء الحمامة ،وما هي إلا أياّم حتى يكتشف أنّها قمر !!! سأحاول أن أدسّ لها سمّا في الحوض الذي تشرب منه الطيور، وليس مهما أن تموت كلّها فأنا لا أحبّها ،أمّا الأكل فلا سبيل إليه لأن السّلطان جمال الدين يطعمها من طبقه . في تلك الليلة أرادت الحمامة الخروج لتشرب لكنها وجدت النافذة مغلقة، وفي الصّباح أخبر الخدم أنّ كلّ حمام القصر، وكذلك العصافير قد ماتت ،ولا نعرف سبب ذلك .
جاء حكيم الزّمان ،وفحصها ،ثم قال :السّبب هو الماء ،ردّ جمال الدين: أحمد الله أني أخفيت قمر، لم أكن أعرف أن لسميّة كلّ هذه القسوة !!! من البداية لم أشعر ناحيتها بالحبّ ،لكن أبي أصرّ على زواجي منها. أمّا تلك المرأة فلما رأت أن الحمامة لا تزال حيّة جنّ جنونها ،وقالت الحلّ أن أذهب لتلك الساحرة لتعطيني شيئا لا تنجو منه تلك الحمامة اللعينة ،ثم تنكّرت في زي الخدم ولما خرجت من القصر ركبت حصانا وذهبت ناحية مملكة أبيها التي لا تبعد سوى بضعة ساعات ،أبلغت الجارية السلطان بخروج سيدتها ،فطلب من عبيده أن يتبعوها دون أن تشعر، ويقبضوا على السّاحرة ،ويحضروها أمامه ،وأن يكمنوا لامرأته ويلبسوا زيّ قطاع الطّرق، ويأخذوا منها الحصان، وكلّ ما تحمله .
لمّا وصلت سميّة لكوخ للسّاحرة في الغابة ،أخبرتها بقصّتها ،فقالت لها :الحبّ بينهما أقوى ممّا أتصوّر، لقد أصبحت قمر حمامة ،لكن السّحر لم يقدر أن يأثّر على قلبها ،فهي تحبّ جمال الدّين بكل جوارحها ،قالت المرأة: لم أقدر على الخلاص منها ،أريد شيئا يقتلها حتى ولو اختفت عنده !!! ابتسمت العجوز وقالت :سأعطيك عقارا ترشّيه في القصر، وهو ليس مؤذيا للبشر، لكنّه يقتل كلّ الحيوانات الصّغيرة كالجرذان والطيور، وحتّى الأرانب ،سألتها هل أنت متأكدة أنّه لن يضرّ أحدا من أهل القصر ؟ أجابتها كلّ التأكد ،فلن يحسّوا بشيئ .دفعت لها سمية صرة كبيرة من المال، وقالت لها : أريدك أن تأتي للعيش معي في القصر، وسأعطيك عملا ،فأنا أحتاج إليك لتواصلين تعليمي السّحر ،قالت الساحرة :أنا أيضا مللت من العيش وحيدة هنا فالغابة مليئة بالسّباع .
كان عبيد السلطان قرب الكوخ ،وسمعوا كل شيئ، ولمّا إبتعدت سميّة قليلا دخلوا ،وكمّموا فم السّاحرة، وحملوها معهم ،أمّا سمية فقد هاجمها في منتصف الطريق رجال ملثّمون، سرقوا منها كل ما تحمله، وتركوها في الغابة ومشت حتى تورّمت قدميها ،ولم تصل إلا في المساء ،وقد ظهر عليها العطش والإعياء الشّديد . وجدت السلطان وأباه العجوز في إنتظارها ،ولما سألها الأب أين كنت يا إبنتي ؟ تلعثمت، ولم تعرف ما الذي تقوله ،قال السلطان وقد ظهر عليه الغضب : أصلحي من شأنك، موعدنا غدا في قاعة العرش !!! أخبرتها أحد جواريها التي تثق بها ،أنهم أحضروا ساحرة من الغابة، فعرفت سميّة أنّها وقعت في الفخّ ،وعليها الهرب إلى قومها ،ثم إيجاد كذبة مناسبة لتبرير مغادرة القصر ،كان هناك دهليز سري يقود إلى الخارج ،في الليل جاءت جاريتها وألهت الحارس الواقف أمام الباب ،أما هي فتسللت من الدهليز، وفي طرفه وجدت جاريتها تنتظر مع حصانين ،ومعها جراب فيه طعام وماء ،ثم سارتا وإبتلعهما الظلام .
في الصّباح أرسل السّلطان في طلب سميّة، لكنّه إكتشف أنّها هربت، أحضر السّاحرة التي إعترفت بكلّ شيئ ،وقالت له: إذا وعدت بعدم قتلي ،سأرفع السّحر عن إمرأتك !!! قال له أبوه :أنصحك بقتلها ،وسأزوّجك بأجمل جواري المملكة ،لكن السّلطان قال: إني أحب قمر، وإن لم ترجع كما كانت سأقتل نفسي ثم أخذ الخنجر ،ووضعه على رقبته ،فصاح أبوه : أرجوك لا تفعل ذلك، حسنا سنكتفي بسجنها في أحد البيوت ونجري عليها نفقة ،قالت السّاحرة : أنا موافقة ،وسأصلح ما قمت به من أخطاء ،أخذت ريشة من ريش قمر وضعتها في ماء مع مسحوق أبيض، ثم صبّت الماء على الحمامة، وبعد لحظات شاهد الجميع صبيّة عارية ليس في الدّنيا أجمل منها ،وسارعت أحد الجواري بوضع ثوب عليها ،نظرت قمر إلى نفسها ،وقالت هل هذه أنا ؟ ثم وضعت رأسها على الأرض ،وراحت في نوم عميق ،قالت الساحرة لما تستيقظ غدا ستكون في حالة جيّدة ،الآن أتركوها تنام …
في الصّباح أحسّت قمر بقبلة دافئة على جبينها ،ولمّا فتحت عينيها ،شاهدت جمال الدّين جالسا بجانبها على الفراش ،وهو يحملق فيها،فإبتسمت، وسألته : لماذا تنظر إلي هكذا ؟ أجابها :لا أصدّق أنّك عدت كما كنت ،لقد إعتقدت أنّك ستبقين حمامة ،ولا أقدر أن أذوق طعم شفتيك ،قالت :وأنا أحسد الحمام على حرّيته، لقد إستمتعت كثيرا بالتّحليق فوق المروج الخضراء ،لقد رأيت حياة المخلوقات الصغيرة النمل، والدّيدان ،والفراشات إنّها تعيش بسعادة وليس مثلنا نحن البشر. وهي لا تعرف الجشع، ولا الحقد .
كان يستمع إليها بإنتباه ،ثم سألها فجأة :هل تعلمين أن سميّة قد هربت ؟ أجابت: لا أستغرب ذلك ،بعد أن انكشف أمرها ،فوراء جمالها هناك وجه قبيح كانت تخفيه عنا !!! قال السّلطان: كنت أحسّ بذلك، لهذا السّبب كنت أنفر منها ،قلبي لم يحبّها يوما، رغم أنني حاولت ذلك !!! غدا يحضر القاضي كي أطلّقها ،وأبي لم يعد يرغب في وجودها هنا ،فهي خدعتنا جميعا .
لقد حكت لي السّاحرة عن كل شيئ، وأنّ أجدادها كانوا يصنعون للملوك مرهما يجعلهم أكثر شبابا ،المشكلة أنّ هذا الدواء مركّب من غدد ينتزعونها من الموتى ،والملوك لم يعودوا يكتفون بذلك ،وبدأوا يخطفون الأطفال لقتلهم ، كان سحرة الثّعبان الأسود ناسا شرفاء ،رفضوا رغبتهم ،وهربوا إلى الجبال ،لكن هناك خائن دلّ على مكانهم ،وفي الأخير تم إبادتهم، ولم تنج إلا هي ،لأنّها كانت تجمع الأعشاب بعيدا عن القرية .
وذات يوم كانت الأميرة تتجوّل في الغابة ،فسقطت ،وأصاب حجر ساقها، فخرجت لها من بين الأشجار ،وعالجتها وبمرور الوقت أصبحتا صديقتين وعلّمتها شيئا من السّحر حتى اليوم الذي تزوّجت فيه . قالت قمر: يا لها من حكاية عجيبة ،لو لم أظهر في حياتك، لواصلت سميّة تعلم السّحر حتى يجيئ اليوم الذي تسحرك فيه، وتصبح طيّعا بين يديها ،ردّ جمال الدين :لا أعرف كم من مرّة أنقذتني ،أنا ممتنّ لك بكلّ شيئ ،قالت قمر : وأنا أيضا لولاك لبقيت جملا آكل العشب في البادية !!!
أمّا سميّة فرجعت إلى أباها ،ولما رأته إرتمت عليه ،وبدأت في البكاء ،إنزعج الملك ،وسألها ماذا حدث ؟ :قالت إنّ السلطان وأبوه يستضيفان بعض سحرة الثعبان الأسود ،وهما يمارسان السّحر، ويستحضران الجنّ . ولمّا علمت بسرّهما ،حاولا قتلي ،فهربت !!! إبتلع الملك ريقه، وقال: هل أنت متأكّدة ممّا تقولين ؟ فلقد قتلنا كلّ أفراد هذه الجماعة ،ولم يبق أحد !!! أجابت :نعم ،وعلامة ذلك أنّهم يصنعون أكسير الحياة !!!
لم يعد لأبيها شك ،فلأجل هذا الدّواء أبادوا جميع السّحرة ،لكي لا يتكلموا عن الصّبيان الذين قتلهم الملوك ،أرسل أبو سمية رسولا إلى السّلطان جمال الدين وطلب منه تسليمه السّاحرة ،لكنه إعتذر ،ردّ أنّه أعطاها الأمان، ولا يمكنه التّراجع في وعده وأخبره من طلاقه من ابنته !!!
لمّا سمع ذلك جنّ جنونه وتأكد أنّ سمية أخبرته الصّدق ،أرسل إلى حلفائه وطلب منهم التجهّز للحرب ،فهو لن يسكت على الإهانة ،قالت سمية لأبيها: نسيت أن أقول لك أن لهذه السّاحرة إبنة إسمها قمر، ولقد تزوّجها السلطان ،وهي أكثر براعة في السّحر من أمّها ،و يجب قتلها أولّا !!! أجاب الملك : سنحاصر المدينة حتّى يسلّم لي الإثنين ،وعندئذ سأحرقهما بيدي !!! قالت سمية في نفسها : هل تعتقد قمر أنّها نجت منّي ؟ لن يهدأ لي بال حتى أراها كومة رماد !!! أمّا السّاحرة ، سأتسلل ليلا، وأطلقها لأنّها معلّمتي ..وستعلمني كيف أصنع الأكسير ليزيد جمال وجهي …
…
إقترب جيش أبو سميّة من المدينة ،وما إن سمع السّلطان جمال الدّين الخبر حتى أمر بملئ المخازن بالحبوب، وإغلاق الأبوب.ثمّ أرسل في طلب أبيه ،ولمّا حضر سأله :ما الرّأي عندك ؟ أجابه : إنّه يريد السّاحرة ،وأعتقد أنّنا يجب تسليمها له ،فليس لنا قدرة على حربه !!! قال السّلطان: لو فعلنا ذلك لأحسّ بضعفنا ،وطمع في ملكنا .بينما هما يتجادلان ،دخل الحاجب ،وقال له :مولاي رسول بالباب يريد مقابلتك ،فأذن له بالدّخول ،وقال لجمال الدّين : يخبرك سيّدي إنّه لو سلّمت السّاحرة وإبنتها قمر ،فسنرجع من حيث أتينا ،ولا حاجة بنا لحربكم !!! دهش السّلطان ،وردّ عليه :أترك لي يوما أفكّر فيه .
عرف جمال الدّين أنّ سميّة كذبت على أبيها ،لتنتقم من قمر،حتّى ولو أشعلت حربا وأهلكت الزرع والضّرع .في هذه الأثناء كانت الأميرة جالسة في مقصورة الحريم ،وسمعت كل شيئ ،ولمّا إنصرف الرّسول ،قالت لزوجها :إسمع يا مولاي : كيد النّساء لا تغلبه إلا النّساء ،فدعني أذهب إليهم ،وأتدبّر الأمر !!! إنزعج السّلطان ،وردّ عليها : لو سلّمتك إليهم لقتلتك سميّة بيديها ،لا تقلق، أمامي بعض الوقت لأجد حلاّ .
قالت له :سأخبرك بما أنوي فعله لمّا أكون عندهم !!! وشرعت تتكلّم ،والسّلطان ينظر إليها بإهتمام، ويهز رأسه ،ثمّ إبتسم ،وهتف : حيلة مدهشة ،لكن سيتوقّف نجاحها على براعتكما في التّنكر،فإن كان ذلك جيّدا سأتركما تذهبان ،هيّا أنا بإنتظاركما قرب أبواب المدينة .
كانت قمر مولعة بالحكايات ، وتعوّدت أن تذهب للسّاحرة العجوز لتقصّ عليها أخبار الجنّ والسّحرة والأغوال، وحكت لها ذات مرّة عن الأكسير الذي يردّ الشّباب ،وقالت أنّه صعب التّركيب، وأيّ خطأ يجعل الإنسان يهرم في دقائق .و أنّ سميّة تلحّ لتتعلم كيفية صنعه !!! كانت قمر تعلم أنّ غريمتها لن تقتل السّاحرة ،لذلك إقترحت على جمال الدّين أن تأخذ مكانها، وتضع سحرا يجعلها تبدو أكبر سنّا ،وتلبس ثيابها ،أمّا هي فتحلّ محلّها جارية شقراء تضع هندامها وعطرها ،سيعتقدون في ظلمة الليل أنّها قمر ،ويحبسونها .
رأت قمر أنّه من الأصلح أن تنفذ الخطة بنفسها، فسميّة شديدة الخبث،لكن تعرف كيف تخدعها .و ما عليها إلا أن تعطيها أكسيرا رديئا لها ولأبيها، فيهرمان ،ويجد الجيش نفسه مضطرا للرّجوع إلى المملكة لإختيار سلطان جديد !!! ثم وضعت في جيبها قنينتين من الأكسير، إحداهما رديئة،ورافقتها الجارية التي تحوّلت لأميرة رائعة الجمال ،ولمّا وصلتا إلى باب المدينة إقتربتا من السّلطان، وسلمتا عليه، فتعجّب منهما، وقال للجارية: والله لو لم أكن أعرف حيلتك لإعتقدت أنّك قمر !!!
إتجهت المرأتان إلى الخيام المصفوفة أمام الأسوار،ولما رآهما أبو سميّة قادمتين ،فرح وقال في نفسه : السّلطان لا حول له ولا قوة ،وينقصه الحزم، وإلاّ لما سلّمهما .غدا سنهاجم المدينة ،ونأخذهم على حين غرّة، وأعلّم جمال الدّين الأدب مع بنات الملوك !!! ولمّا أرجع منتصرا سأتمّ المهمّة التي بدأ فيها أجدادي، وهي قتل كلّ سحرة جماعة الثّعبان الأسود .
إقتربت سميّة في الليل الى الخيمة التي سجنت فيها المرأتان ،وسقت الحرس جرة خمر معتّقة، ،ولمّا ناموا تسللت داخلها ،ثم أخرجت قمر، وهي تعتقد أنّها السّاحرة . ثم ذهبا إلى طرف الغابة ،وقالت لها سميّة : سأطلقك الآن ،إرجعي إلى كوخك !!!وسآتي إليك . قالت قمر: لقد صنعت لك ولمولاي السلطان قنّينة من الأكسير هدية لكما ،وسأعلّمك أسراره .
لكن سميّة شكّت أن يكون في الأمر خدعة ،فلقد كانت السّاحرة حريصة جدّا على سرها، فلماذا الآن كل هذا الكرم ؟ قالت لها : حسنا جرّبيه على نفسك وسنرى !!! أخرجت قمر القنّينة ،ودهنت وجهها بذلك الزيت ،وبعد دقائق زالت التّجاعيد ورجع إليه شبابها ، كانت الغابة مظلمة لا يضيئها إلا مشعل صغير لذلك لم تعرفها ،صاحت سميّة :مدهش ،والآن هات الأكسير !!!لكن قمر غافلتها، ومدّت لها القنّينة الرّديئة .
دخلت سميّة على أبيها ، وكانت تعلم أنه يكره السّحر ،وقالت له: لقد حصلت على دواء يجعل الوجه أكثر صفاء ، سأضع شيئا منه على وجهي، ثمّ قبّلت والدها على خدّه وخرجت. وبعد دقائق رجعت تجري ،وهي تصرخ فلقد إبيضّ شعرها، وشحب لونها ،ولمّا نظرت لأبيها السّلطان ،وجدت أنّه أصبح عجوزا هرما لا يقوى على الوقوف .
أمّا قمر فانتظرت قليلا في الغابة، ثم رجعت للخيمة وهي تحاذر أن يراها أحد ،وكان الجنود لا يزالون نياما، ففكّت وثاق الجارية،وأخرجتها ،ورجعا إلى المدينة …
…
يتبع
من قصص حكايا العالم الاخر