مكتبة الأدب العربي و العالمي
يوسف_المسحور_بين_سبع_قبور
أرى أنك قد أحضرت ثعبانا صغير ،هات الجراب ،فقريبا يحضر ذلك اللعين ويشم رائحتك ... ...
العفريت يكشف السّر الغامض ..
لمّا بدأ الليل في النزول جاء العفريت ،وما كاد يدخل حتى نظر يمينا وشمالا وقال : آدمي في قصري ،يا ويله منّي !!! لكن الفتاة ضحكت ،وقالت: ما هو إلا ثعبان صغير، وقد قبضت عليه ،وسأطبخه لعشائك !!! قال لها :هذا جيّد، فلم أحمل لحما اليوم ،أريد حساءا ساخنا هذه الليلة، فأنا أشعر بالبرد .فأشعلت الموقد، وطبخت له طعامه بالفلفل الأحمر ،مع خبز الشّعير ،وأعدت برّادا من الشّاي ،فأكل العفريت حتى شبع ، ثم شربا معا الشاي بالنّعناع ،وكانت بجانبه تلاطفه ،ثم قالت له :سأحضر لك ماءا ساخنا ،وأمسد رجليك، كان العفريت متعبا ،ولمّا بدأت تمسدهما ،أحسّ بالرّاحة ،وانبسطت نفسه ،فبدأت تروي له الحكايات ،وهو يستمع ،ووجدت الفرصة لسؤاله عن يوسف ،فادّعت أنّ عجوزا كانت تأتي إلى قصر أبيها لمّا كانت صغيرة، وحكت لها عن أمير مدفون بين سبعة قبور ،لا يطلع منها إلا إذا أتته الفتاة التي يحبّها ،وأقسمت لها أنّها حقيقيّة، لكنها طبعا لم تصدّقها .
إنطلت الحيلة على العفريت الذي كان مستمتعا بأصابع البنت على رجليه الغليظتين ،وأجابها : أنا أيضا أعرف تلك الحكاية ،ذلك الأمير إسمه يوسف وهو إبن سلطان كان يمارس السّحر، ويبحث عن الخبايا ،ذات يوم فتح له ساحر مغربي حفرة فيها كنز كبير، ونال مكافئة كبيرة ،ولمّا أراد السّلطان أخذ ذلك الذّهب ،تراءى له ملك الجان في المنام، ونصحه بأن لا يفعل ،لأنّ الكنز له منذ مئات السّنين، لكن السّلطان أعماه الطمع ،ولم يستمع للنّصيحة ،فخطف الجان إبنه الوحيد يوسف، وحبسوه في قبر مهجور داخل جزيرة نائية ،وعرفوا الفتاة المكتوبة له ،والتي لا يمكن لها أن تتزوّج غيره ،ووضعوا العوائق في طريقها لكي لا تصل له أبدا.
وتلك البلاد دونها أغوال وأهوال ،أمّا هو فعاهد الله إن أنقذه فتى، جعله أخاه ،وإن أنقذته بنت تزوّجها .فرحت الفتاة حين سمعت ذلك ،لكنّها تظاهرت بعدم الاهتمام ،وسألته: لكن أين توجد تلك البلاد ،وكيف يمكن الذهاب إليها ؟ توقّف العفريت عن الكلام ،وأمسك أصابع الفتاة بقوّة حتى كاد يكسرها ،وقال لها لماذا هذا السّؤال ؟ ثم ما هو سبب إختيارك هذه الحكاية دون غيرها ،ما الذي تدبّرينه أيتها اللئيمة !!! بدأت الفتاة بالبكاء ،وقالت : لقد إختفت العجوز قبل أن تروي لي باقي الحكاية ،ورغم أنّي كبرت، فلا أزال أفكّر في ما حدث، وأعتقد أنّ أحدهم منع تلك المرأة من الكلام ،وأنّ قصّة يوسف ستبقى تبقى سرّا إلى الأبد .
أشفق العفريت على البنت لمّا رأى دموعها ،وقال لها : إعلمي إني من أخلص أعوان ملك الجان ،ولقد أوصاني مولاي بإخفاء قصّة يوسف حتى ينساها الناس ،لكنّي سأخبرك بها إن مسدت ظهري وأحسست نعومة يديك على جسدي !!! فاستلقى العفريت ،وضغطت على عظامه ،فاسترخى ،وزال غضبه ثم قال: ان كنت تريدين الحقيقة ،فالوصول إليه يكاد يكون مستحيلا ،لأنّ من يريد ذلك عليه أن يأخذ سبعة أزواج من النعال ،وسبعة من مراوحي وسبعة طواق( مفرد طاقية ) ،فسألته: ولم تصلح هذه الأشياء ؟ ضحك وأجابها : أمّا النّعال لكي يلبس أوّلها،ويسير به حتى يتمزّق ،عندها يجد في نهاية الطريق بحرا يرمي فيه طاقية تتحوّل إلى زورق صغير يوصله إلى الشّاطئ الثاني .
ثمّ يعبر البرّ الثاني ،بنعل جديد حتى يصل الشّاطئ الثالث ،وهكذا حتى يقطع البرور والبحور السبعة بعدها سيجد بناء مهجورا يشبه المسجد ،وحوله بأشجار النخيل والماء والعيون ،وفي وسط ذلك البناء يوجد قبر يوسف ،وعليه أن يحرك كلّ مرّة مروحة من المراوح السّبعة وكلما تمزقت واحدة منها إنفتح قبر من القبور السّبعة ،ولمّا تتمزّق المروحة السابعة ينفتح القبر الأخير الذي فيه يوسف ،وينفك عنه السّحر ،ويتمكّن من النّجاة ،بعد ذلك طلبت منه الفتاة أن يحكي لها عن قصص أخرى ،حتّى تعب العفريت ،ونام عندئذ تسلّلت إلى ضيفتها ،وحكت لها كلّ ما سمعته ،وقالت لها ،الوصول إلى يوسف ليس هيّنا وان لم تكن لك القدرة على ذلك ارجعي إلى أبيك وأخواتك !!!
لكن نور ردت: لقد خرجت للبحث عن مكتوبي، ولن أعود قبل أن أنقذ يوسف ،قالت الفتاة ما دام الأمر كذلك سأجهزّك للرّحيل وسرقت سبعة من نعال العفريت ،وطاقياته ومراوحه ،وسلّمتها لنور ،وأعدت لها زاد و قربة ماء وأعطتها كبقية أخواتها لوزة وطلبت منها كسرها كلما إحتاجت لمساعدة ،وفي الصباح إنتظرت إنصراف العفريت ،ثم خرجت وركبت حصانها وهي لا تدري أين ستتّجه ..
سارت نور مسافة طويلة بإتّجاه شروق الشّمس ،ولمّا تعب الحصان نزلت وتركته يرعى ،ولبست حذاء العفريت ،ووضعت أغراضها على كتفيها ،وبدأت في المشي وهي تتعثر ،فالحذاء كان كبيرا على ساقيها ،وفي بعض المرّات تسقط على وجهها ،وبعد سبعة أيّام من المشي تقطّعت أنفاسها ،ومازال الحذاء سليما لم يصب بخدش واحد ،فجلست تفكّر ،وقد أصابها اليأس ،ونظرت حولها فرأت طيرا ينقر في غصن شجرة حتى أحدث ثقبا إستخرج منه دودة وطار ،ثم وقفت ،وقالت :كم أنا حمقاء فلن يتمزّق النّعل إلاّ إذا دبّرت حيلة !!!
ذهبت إلى مكان مليئ بالحصى والحجارة ،ومشت عليها ،وفي آخر النّهار إمتلأ الحذاء بالثّقوب ،ففرحت ،ورغم إعيائها قالت: لن أقف حتى ولو مشيت كامل الليل ،يجب أن أجد يوسف ،وأرجع بسرعة. لقد مضى عليّ خروجي ثلاثة أشهر وأنا غائبة عن أختي ،وسيغضب أبي إن جاء ولم يجدني، وربّما يمرض لفقداني ،وأنا لا أحبّ أن يقع له مكروه بسببي ،كانت الحجارة حادة الأطراف ولم يطل الأمر حتى تمزّق الحذاء ،وخرجت أصابعها منه ،ثم وقفت وجالت بنظرها في الغابة ،فلم تر شيئا لقد فكّرت أن الحذاء لن يقودها إلى أرض معلومة ،بل ستظهر أمامها إذا تمزّق الحذاء .
وفجأة رأت كثيرا من الحيوانات تذهب وتجيئ : غزلان ومها وثعالب ،فتعجبت لأنّه قبل لحظات كانت الغابة فارغة فتبعتها ،وهي تعرج بالحذاء الممزّق حتى جرحت ساقها ،ومن بعيد رأت بحرا واسعا تتلاطم فيه الأمواج .
فركت عينيها لتتأكّد أنّ ما تراه حقيقة ،وتسائلت من أين جاء هذا البحر؟ وأين أنا ؟ لكنها لما وصلت إلى الشاطئ نسيت كلّ شيئ ،وبدأت تمرح في الماء البارد بعد كلّ العناء الذي قاسته ،ثم أخذت طاقية ورمتها ،ووقفت تنتظر ،وما هي لحظات حتى أخذت تكبر إلى أن صارت مركبا يمكنه العوم على الماء ،فقفزت فيه ،ووضعت حاجياتها ،ثم إستلقت ،ونامت من شدة الإعياء .أبحرت الطاقية كامل الليل ،وفي الصّباح لمّا فتحت عينيها سمعت صياح النّوارس ،ورأت نفسها على الشّاطئ ،فأخذت نعلا آخر ،ومشت به في الأرض الثاّنية على الحجارة حتى تمزّق ،ووصلت إلى البحر الثّاني،وأمضت سبعة أيام وسبعة ليالي وهي تعبر البحور والبراري ، ونفذ طعامها ومائها في اليوم الرابع لكن في اليوم السادس هطلت الأمطار فشربت وملأت قربتها ولم تجد شيئا تأكله فكلّ نباتات البرّ كانت مرّة ،أمّا البحر فأسماكه متوحّشة .
في الأخير وصلت إلى جزيرة خضراء فيها النّخيل والفواكه والآبار والعيون الجارية ،ولم يكن هناك مخلوق فبدأت تقطف من الثّمار وتأكل حتى شبعت ،ثم خلعت ملابسها ،ونزلت لتستحمّ ،و أحسّت بالرّاحة فلقد كانت الجزيرة جميلة ،ثم قامت وقد إمتلأ قلبها بالسّرور وبدأت تبحث عن مسجد مهدوم حتى وجدته أمامها كما وصفته لها الفتاة في القصر الثّالث ،ولمّا دخلت الفناء وجدت سبعة قبور مصفوفة إلى جوار بعضها والذي في الوسط على شكل قبّة خضراء ،فجلست قرب القبر الأوّل، وأخذت أحد المراوح وبدأت تحرّكها طول اليوم ورغم أنّها أحسّت بالتعب إلا أنّها لم تتوقّف لحظة واحدة ،ولما حلّ الليل تمزقت المروحة فانتفتح القبر ،ولم تجد الوقت لتفرح فلقد غلبها النّعاس .
وفي الغد كانت ذراعها تألمها ،لكن تحاملت على نفسها، وقالت: لم يبق إلا القليل وأرى يوسف الذي حلمت به طوال هذه الأيّام ،وفي آخر اليوم إنفتح القبر الثّاني لمّا جاء اليوم الثّالث بات من الواضح أنّها لن تقدر على تحريك المروحة ،فأخذت في البكاء ،لكن فجأة سمعت أصواتا ،ولمّا ذهبت لترى ما يحصل وجدت جمعا من التّجار ،وقد لاح عليهم الجوع والعطش ،فأرتهم مكان الماء والثّمار فأكلوا وشربوا و،حمدوا الله على نجاتهم ،وحين سألتهم عن حالهم ،أخبروها أنّ سفينتهم ضاعت في البحر، ووجدوا أنفسهم في هذه الجزيرة العجيبة ف،كسرت أحد اللوزات التي أعطتها لها الفتيات الثلاثة ،وخرجت منها حمامة قالت لهم أنها ستقودكم إلى أرضكم ،فشكروها ،وأعطوها خادمة حبشيّة قوية البدن لكنها ليست جميلة الوجه ،ثم رجعوا إلى مركبهم ،ورحلوا .
حكت نور قصّتها للخادمة ،وطلبت منها مساعدتها ريثما تشفى ذراعها ،أمسكت الخادمة مروحة وحرّكتها بقوّة وبعد ساعات انفتح القبر الثّالث ثمّ القبر الرّابع والخامس ،أما نور فنامت طول اليوم ولم تعلم بما حصل ،في الصباح قالت الزّنجية في نفسها سأفتح قبر الأمير، ولمّا يراني سينفّذ عهده ويتزوّجني ،وأصير أميرة ،فأنا لا أستحقّ حياة الخدم، ونور هي من سيخدمني !!! إنفتح القبر السّادس ،فخرج منه حصان أبيض ليس أجمل منه ،وبدأت القبّة الخضراء تتشقق بهواء المروحة السّابعة ،ولمّا تمزّقت أوراقها إنهارت الأحجار ،وظهر بينها فتى لا يوجد في الدّنيا أكثر منه وسامة ورجولة ،وعندما رأى الحبشية أمامه إنزعج من بشاعة وجهها، لكنّه قال في نفسه :لمّا يقطع يوسف وعدا فإنّه ينفذّه ،وسأتزوّج تلك الفتاة .
سمعت نور صهيل جواد، وحين فتحت عينيها ر،أت القبر السّابع مفتوحا، وقربه يوسف يمسك يد الحبشية ،ويركبها وراءه على الحصان الأبيض ،وفي هذه اللحظة إختفت الجزيرة الخضراء، ووجدت نفسها في الغابة التي خرجت منها ،فصاحت بألم: يوسف أنا نور حبيبتك ،لا تتركني!!! ثم سقطت على الأرض مغمى عليها، ،نظرت لها الحبشية بشماتة ،ثم سارت مع يوسف إلى مملكة أبيه التي توجد بعيدا وراء الغابة ..
…
مشط الألماس.
بكت نور ،وتساقطت دموعها غزيرة على خدها ،وقالت :بعد كل هذا التعب والشّقاء يضيع كل شيئ ،وتخدعني خادمة !!! لكن بعد قليل مسحت وجهها بكمّ ثوبها ،ثم وقفت، وصاحت : يوسف هو مكتوبي ،ولن أترك امرأة أخرى تفوز به ،ثم بحثت عن حصانها فوجدته حيث تركته ،وفرحت كان عليه صرّة ملابس جديدة أأعطتها لها الأميرة في قصر العفريت ،لم تكن لها الوقت لتبحث عن طعام واكتفت بملء قربتها من جدول صغير ،وأطلقت العنان للحصان، وصارت تدخل من قرية ،وتخرج من أخرى ،وتسأل كلّ من يعترض سبيلها عن فتى وخادمة سوداء،، لكن لم تجد من يعطيها خبرا عنهما ،وواصلت طريقها، وقد إشتد بها الجوع ،وملّت من أكل التّوت البرّي الذي تجده في طريقها ،واضطرت إلى بيع ما بقي من ملابسها لتشتري خبزا ولبنا وعلفا للحصان .
وبينما هي تسير يوما ،وقد أنهكها التّعب والجوع ،لمحت شيخا كبيرا تحت شجرة يطبخ طعاما ،فذهبت ،وسلمت عليه ،ولمّا رأى حالتها أشفق عليها ودعاها إلى الجلوس والأكل معه ،فقالت له: لن أنسى معروفك،أجابها :أنا ناسك أعيش وحدي ،ونادرا ما أكلّم أحدا ،وبعدما أكلت واستراحت، سألته هل من عادتك أن ترى المارّين على الطريق؟ فقال لها :كأنّك تبحثين عن أحد ،أجابت: نعم عن فتى وإمرأة سوداء !!! فحكّ ذقنه وقال: لقد رأيتهما ،واستغربت كيف لفتى مثل القمر أن يحبّ بنتا قبيحة الوجه ،فلقد كان يمسك يدها ،ولا يرفع عينيه عنها ،وقبل أن يتمّ كلامه قفزت على حصانها ،وهمزته فركض بسرعة ،فصاح النّاسك: لم تشربي الشّاي !!!
لكن نور كانت تخشى أن تصل بعد فوات الأوان، وماهي ساعة حتى وصلت لمدينة كبيرة مزيّنة الشّوارع ،ولم يكن هناك حاجة لمعرفة أنّها مملكة يوسف وأنّ القوم يستعدون لزواج كبير ،ولمّا سألت رجلا ينصب الموائد في السّاحة الواسعة عن العروسة، أخبرها أن أب يوسف وأمّه لا يحبّونها ،وقد غضبا منه لأنها ليست إبنة ملوك ،وفوق ذلك هي قبيحة ،لكن أمام إصراره لم يجدا بدّا من القبول ،فقالت في نفسها :لقد إنتصرت عليّ مرّة ،لكنّي من سيربح في النهاية ،ثم أخذت اللوزة الثانية ،وكسرتها ،وأخرجت مشطا من الذّهب مرصّع بالألماس ،ثم رأت تاجرا يفرغ بضاعته والعبيد يحملونها إلى القصر ،فأخذت سلة ،ودخلت بها .
ثم اتّجهت إلى جناح الحريم ،واندسّت وسطهم ،فجاء الخدم ،وأدخلوها للحمّام وألبسوها ثياب الأميرات ،وهم يعتقدون أنها أحد جواري السّلطان لشدّة بياضها وجمالها ،لكن رأتها قهرمانة القصر ،وقالت لها: لا أعرفك!!! متى جئت إلى هنا ؟ قالت لها نور : لقد أدخلني يوسف ،واتّفقنا أن أكون عنده الليلة فابتسمت القهرمانة لذوق الأمير ،لكنها سألتها :ومن يضمن لي أنّك تقولين الصدق،،فأخرجت لها المشط المرصّع بالألماس، وقالت لها :هذا هدية من يوسف لك ،إندهشت القهرمانة ،فأجابتها :موعدنا هذه الليلة إذن، ولن يعلم أحد بقدومك إليه ،ثم قالت في نفسها: كيف يترك يوسف هذه الفتاة الجميلة ،ويتزوج من تلك القبيحة ،والتي لا تعرف الأدب .
لمّا جاء الليل دخلت نور ،فوجدت يوسف نائما ،فحرّكته يمينا وشمالا لينهض ،ثم شرعت تبكي و تصيح : ماذا جرى لك يا يوسف ،مالك لا تتكلّم، وتفتح عينيك !!! نظرت حولها فرأت إناء فيه بقيّة لبن ، وطبق بالدّجاج المشوي لم يمسّ منه شيئ ،فقالت: أهذا كلّ طعامك ،لمذا لم تأكل ؟ لكنّه لم يجبها . وفي الصّباح أخبرت القهرمانة بما شاهدته ،فأجابتها أنّه لا علم لها بشيء ،وإنّ تلك المرأة الحبشيّة هي التي تهتمّ بطعامه وشرابه ،فقالت نور : أمر يوسف لا يعجبني ،لا بدّ أن أراه الليلة أيضا ،قالت القهرمانة :سأتعرّض لمشكل مع السّلطان ،وهو سيغضب إن سمع بالحكاية ،فكسرت نور اللوزة الأخيرة وأخرجت منها مرآة من الذهب ،ولمّا رأتها القهرمانة لمعت عينيها من شدّة الطمع ،وقالت لها هذه الليلة فقط، هل فهمت ؟
في الليل دخلت نور ،وجدت الأمير يشرب اللبن لكنّها إنتزعته من يده قبل أن يشربه كله ،وقالت له :أريد أن أقصّ عليك حكايتي ،لكنّه نظر إليها دون مبالاة،وقال: دعيني أنام ،فأنا أحسّ بنعاس شديد ،ثمّ إرتمى على الفراش، لكن نور أمسكت بقميصه بقوّة ،وترجّته أن يسمعها، ودون أن تفطن جرحته بأظافرها في صدره . ثمّ تساءلت :الطعام كالعادة في مكانه ،كأنّ هناك شيئا يمنعه من الأكل !!! فكّرت قليلا، ثم أخذت قدح اللبن ،وذاقته بطرف لسانها ،وأحسّت أنّ طعمه متغيّر ،وفي القاع رأت بقيّة مسحوق بنّي اللون ،وهتفت إنّه سحر ،تلك اللعينة تدسّ له شيئا حتى يحبّها، لا بدّ أن يعلم السّلطان بما يحدث ليوسف …
وفي الصباح بحثت عن القهرمانة لكنها علمت أنّها ترفض مقابتها ،وتطلب منها مغادرة القصر وإلا أجبرتها على ذلك ،صاحت نور: لن أدع أحدا يأخذ منّي يوسف ،ثم دخلت المطبخ ولبست ثياب الطباخين وكان هناك عدد كبير من الخدم في المطبخ، ولم يهتمّ بها أحد وجلست في ركن تقشر الخضار ،فرأت الحرس يمشون ويجيئون في الرواق الطويل وهم يبحثون عنها فابتسمت ،وقالت :ابحثوا كم شئتم ،أما أنا سأعرف كيف سأنتقم من تلك الحبشيّة السّاحرة .
في ذلك الوقت إستيقظ يوسف، وفرك عينيه ،ولم يعرف كم من الوقت قضاه نائما ،حاول أن يتذكّر لكن أفكاره كانت مشوّشة ،ولمّا رأى الجرح في صدره ،طاف بخاطره الفتاة الجميلة ،
وقال: لم تكن حلما لقد كنت أراها وأسمعها، لكني لم أكن قادرا على الحركة ولا الكلام ، كأني كنت مخمورا ،فنادى القهرمانة وقال لها هناك فتاة بيضاء كانت هنا أمس ،أحضرها فورا وإلا ضربت عنقك !!! كانت نور لا تزال مختفية لما سمعت الحرس يقولون إن الأمير يريد رؤية البنت التي جاءت عنده أمس ،فحملت شيئا من شراب الورد والعسل ،وذهبت إلى غرفة الأمير وكانت صغيرة وجميلة، فلم يوقفها أحد .
فوجئ الأمير يوسف بنور تفتح الباب ،وتدخل ثمّ تغلقه خلفها حاول أن ينادي للحرس لكن بهره جمالها وعينيها الخضراوين ،وتذكر أنها الفتاة التي رآها أمس ،وبقي يحدّق فيها .أمّا هي فجاءت وجلست بجانبه ، وهي لا تصدّق أنّها قرب حبيبها الذي طافت الأرض بحثا عنه ،وأخيرا إبتسما لبعضيهما ،
وقال يوسف :لمّا كنت في القبر، رأيت حلما عجيبا : فتاة بيضاء تركب طاقية كبيرة وتجيئ لإخراجي ،وكنت أنتظرها كل يوم ولما خرجت ولم أجدها أصابني الحزن الشديد لكن بما أن عهد الأمراء لا يرد فإني قررت الزّواج بالفتاة التي وجدتها قرب القبر ،لكن قل لي من أنت ،وكيف جئت إلى هنا ،فقالت له أنا الأميرة نور التي رأيتها في أحلامك، وقصّت عليه ما حدث معها منذ الليلة التي خرج فيها العفريت للأمير الذي كان سيتزوّجها !!! قال يوسف مستغربا : حكاية العفريت صحيحة ،ولا يعلم بها إلا القلة وهو الذي إختطفني من قصر أبي، ورماني في ذلك القبر الموحش الذي لا يدخله االضوء ،لهذا أصدقك ،لكن لا بد أن أسئل تلك الخادمة ليكون ضميري مرتاحا ،فإذا لم تجب عن أسئلتي عاقبتها على غدرها .
قالت له نور: لا فائدة في ذلك فلقد كانت تسحرك بمسحوق غريب لا أعلم ما هو ،لقد كانت تخاف أن تتركها ،وأرادتك لها حتى ولو كنت جسدا بلا روح .ولولا أنّي أتيت البارحة ،ومنعتك من شرب كامل القدح ،لما إستيقظت الآن ،والله يعلم كيف يسكون حالك !!! فحضنها ،وقبّل جبينها ،وقال لها :أنت ملاكي فلقد أنقذت حياتي مرّتين .
بعد قليل جاءت المرأة الحبشية ،وفي يدها طبق فيه لبن، ولما شاهدت نور مع يوسف سقط من يدها من شدة المفاجأة ،فأمسك يوسف ذراغها بعنف ،وقال لها :سأسألك سؤالا واحد :هل رأيت هذه الفتاة قبل ذلك ؟،إرتبكت الحبشية ،و،ركعت تحت قدميه ،وترجّته أن يسامحها ،وقالت له: تلك البنت كانت تحاول إخراجك ،لكنّي إحتلت عليها ،فأجابها :لن أقتلك، لكني سأرميك في سجن بصحبة الفئران عقابا لك …
…
المعركة الأخيرة……
قالت نور: يجب أن أرجع إلى قصر أختي ،فلا شكّ أنّها شديدة القلق لغيابي ،،أجاب يوسف : سأرافقك في الرّحلة ،وسأخطبك من أبيك .في الصّباح سار الأمير مع عشرة من الفرسان المخلصين ،وحمل رسالة من أبيه للسّلطان والد نور، وفي الطريق قالت له : لا بدّ أن أنقذ الفتيات الثّلاثة اللواتي يحبسهنّ العفريت في قصوره تحت الأرض!!! تحمّس يوسف، وأجابها :أنا أيضا لي حساب معه لأصفّيه ،فلن أنس الأشهر الطويلة التي أمضيتها في ذلك القبر الموحش ،قالت له: سأتي اليوم عند الأخت الصّغرى فهيّا نذهب إليها !!! ولمّا وصلوا ،زحزحت نور الرّخامة ،ونزلت في الدّهليز ،فوجدت الأميرة في أحسن زينتها ،ورائحة البخور والعطور تملأ المكان ،ولمّا رأتها تعجّبت ،وقالت: ما الذي أتى بك إلى هنا ؟ اليوم سيحتفل الجنّ بأكبر أعيادهم ،وسأحضر فيه أنا وأختاي !!!
أجابت نور :لست مرتاحة لذلك ،هيّا أخرجي من هنا ،ولمّا يحضر العفريت سنحبسه في القصر !!! تردّدت الفتاة ،لكن نور صاحت: بسرعة، ليس لنا الوقت وسحبتها من يدها ،وأخرجتها، ثمّ أعادت الرّخامة إلى مكانها، وشقّ يوسف جذع أحد الأشجار ،فخرج منها سائل قويّ الرائحة ،دهنوا به أنفسهم، وقال كنت أستعمل هذه الحيلة كلّما ذهبت لصيد الغزلان ،ولم يكمل عبارته حتى سمعوا صوت أقدام ضخمة ،وظهر العفريت بشكله البشع ،وحين وصل قربهم ، وقف ،وبدأ يتشمّم الهواء ،ثم أزاح الرّخامة، ودخل ،وحين لم يجد البنت أطلق صرخة عظيمة، فجرى الجميع ،وأغلقوا المدخل ،ورموا عليه الحجارة والتّراب حتى صار كدسا كبيرا .
كانت الأميرة خائفة ،وقالت :لا أعتقد أنّها فكرة جيّدة ،وسيأتي الجنّ للإنتقام منّي ومن قومي !!! كانت الفراشات تدور كعادتها ،ثمّ توقّفت عن الدّوران وتحوّلت إلى حوريات جميلة المنظر بأجنحة كبيرة ،تقدّمت ملكتهنّ، وقالت للأميرة :لقد أنقذتك نور من الموت ،فهذة الليلة هي لحظة توازي كوكب المشتري مع الأرض والقمر ،وهي لا تحدث إلا مرّة كلّ ثلاثمائة سنة .وفي هذا اليوم يقدّم الجنّ ثلاثة أخوات عذارى قربانا لصنمهم،وعليكم أن تنقذوا أختيها قبل أن يعلم ملك الجنّ ما يحدث .جرت نور ،وأخرجت الأختين الوسطى والكبرى من القصرين، أمّا يوسف فأشعل فيهما النار ، وأخذ من القصر الثالث سيفا ودرعا من الفضّة عليه نقوش بديعة ،وكيسا من الجواهر ،ثم سأل ملكة الحوريات ،و الآن ما العمل ؟
قالت الملكة: في قديم الزّمان كانت هذه الغابة أرضنا قبل أن يأتي الجن ويستولون عليها ،وقد قتلوا كثيرا منّا ،ولهذا نريد أن ننتقم ،وفي القصور هناك كتبهم، وسحرهم، وقد احترق معظمها ،ولم يبق إلا أن نحبسهم حين يجتمعون في معبدهم هذه الليلة !!! في المساء كان الجنّ مجتمعين ينتظرون قدوم العفريت ،ومعه الأميرات الثلاثة ،وبدأ الكهنة يقلقون، وقالوا للملك :لقد تأخّر خادمك ،ولم تبق سوى ساعتين قبل أن ينتصف الليل ،رد الملك :سآخذ بعض الأعوان ،وأذهب لأرى ما يحدث !!! قالت ملكة الحوريات ليوسف: أنت وجماعتك تغلقون باب المعبد بإحكام، ونحن سنغطّيه بالنّبات لكي لا يراه أحد بعد الآن .
تسلّل يوسف ،ومن معه دون أن يشم الجنّ رائحتم ،ووثبوا على الباب فأغلقوه ووضعوا عمودا من الخشب على القفل ، ،وجرى الجنّ يحاولون الخروج ،وكادوا يفتحون الباب لولا أنّ يوسف أخذ السّيف الذى وجده في القصر الثالث ،وأدخله في حلقتي الباب ،ورغم قوّة الجنّ لم يقدروا أن يكسروا ذلك السّيف ،أمّا الحوريات فرمين بذورا ،وحرّكن أجنحتهنّ بسرعة ،فبدأت النباتات بالنّمو ،وتسلّقت الجدرا ن ،وبعد قليل غطّت كلّ المعبد …
مكتوب الأخت الثالثة ….
حين وصل ملك الجنّ الى القصور، رآها تحترق ،ونظر من بعيد إلى المعبد، فوجد أنّه إختفى وسط النباتات، فجرى مع أعوانه ،وهو لا يعرف ما يحدث ،وشاهد يوسف واقفا ،فصاح : اليوم هلاكك أيّها اللعين، وانقضّ عليه بسيفه ،فقاتل يوسف وفرسانه بشجاعة ،لكن الجنّ كانوا أقوياء ،وحاصروهم في ركن صغير، وفي تلك اللحظة إمتلأت السّماء بالحوريات اللواتي أشرعن سيوفهنّ وحرابهنّ ودخلن المعركة ، وطعن يوسف الملك فسقط على الأرض ،ولمّا التفت حوله رأى أنّ القتال أشرف على النّهاية ،فجاءت ملكة الحوريات، وشكرت نور ويوسف عل تخليص قومها من الجن ّ،ووعدتهما بالحضور في عرسهما،و أعطتهما صندوقا كبيرا من الياقوت ،أمّا الثلاثة أميرات فأوصلوهنّ إلى مملكتهن وفرح أبوهنّ و أمّهنّ فرحا شديدا ،بعودتهن ّ،وأغدقوا علي الشّابين الهدايا والتّحف .
وبعد أيّام وصلت نور إلى قصر أختها ،ولمّا رآها الحرس، قالوا لها أبوك يبحث عنك في كلّ مكان ،وهو في أسوأ حال من القلق والألم ،أمّا أختك الصّغيرة فهي لا تكفّ عن البكاء ،فذهت نور إلى أبيها بصحبة يوسف ،ولمّا رآها لم يصدّق عينيه ،وجرى إليها ودموعه على خدّيه ،وقال :ليس هذا وقت العتاب تعالي إليّ لكي أضمّك ،ثم عانقها ،وحانت منه إلتفاتة إلى الفتى فقالت له: هذا يوسف الذي كتب الله لي أن ألقاه ،ولقد طفت البرور والبحور لأنقذه!!!،صاح الملك :سينتقم العفريت منا !!! أجابت هو محبوس مع قومه، ولقد حرّرنا الأميرات الثلاثة من قبضته، وأبوهم الآن من أصدقائنا ،وكذلك ملكة الحوريات ،ولقد أرسلوا لك كلّهم الهدايا ،ثمّ أمرت الحرّاس، فجاءوا بصناديق الجواهر ،ففتحت أمام الملك الذي إندهش لكثرة الياقوت والزمرد والألماس، أمّا يوسف فأخرج من جيبه ورقة مدّها للملك ، وقال له :هذا كتاب من أبي يرسل فيها تحيّاته إليك .
ثمّ صفّق فجاء فرسانه بكيس الجواهر الذي أخذه من قصر الجنّ ،وقال له :هذا مهر نور ، فسرّ السّلطان منها،وتلاشى غضبه ،فبفضلها أصبح له أصدقاء من الملوك ،وحوريات الغابة ،وتخلّص من الجنّ الذين كانوا يفسدون في أرضه ويقطعون الأشجار ويروّعون العامّة، وبعد شهر تمّ زفاف نور ويوسف وامتلأت مملكته بالضّيوف ،ولم تمض بضعة أيام حتّى جاء السّلطان في موكب عظيم لزيارة إبنته الكبرى ،وهنّأها على زواجها ،وأثنى على شجاعتها ،ثم جاءته إبنته الوسطى ياسمينة، وترجّته أن تبقى مع أختها قليلا فهي تشتاقها كثيرا بعد كلّ هذا الغياب ،فوافق السّلطان على مضض ،وأوصاها بعدم الخروج بمفردها .
وما كاد ينصرف، حتى جاءت إلى أختها ،وسألتها كيف فعلت للوصول إلى يوسف؟ فقصّت عليها حكايتها ،وما واجهته من أهوال قادتها إلى آخر الدنيا ،فتعجّبت ياسمينة أشدّ العجب ،وحين نامت ،رأت في حلمها أنّها تركض في المروج مع فتى جميل الوجه ،لكن لمّا يحين المساء يتحوّل إلى كلب متوحّش مربوط بسبعة سلاسل ،فصبرت أيّاما ،ثم قالت لنور: لقد تزوّجت أنت وأختي الصّغرى، ولم أبق سوى أنا ،سأخرج أنا أيضا للبحث عن مكتوبي الذي قال عليه العفريت يوم خرج من الحائط، وأفسد زواجي !!! ارتعبت نور من كلام أختها ،وقالت لها لكن العفريت مجبوس ولا أحد يعرف مكان خطيبك المسحور !!! أجابتها : من المؤكّد أنّ أحدا ما يعرف عنه شيئا ،وسأجوب البرور والبحور مثلك، لأجد الرجل الذي رأيته في الحلم ،لقد كانا حلما جميلا ،وتمنيت أن لا ينتهي .
لمّا رأت نور إصرار أختها جهّزتها بما يلزم من مال وزاد ،وأوصتها أن لا تتجاوز الثّلاثة أشهر، وإلاّ ستكون في موقف صعب مع أبيها الذي سيصبّ عليها جام غضبه ،فوعدتها بذلك ،وفي الصباح خرجت، وهي لا تعرف أين ستذهب، وقالت في نفسها أختي ليست أحسن مني ،وسأنجح مثلها ،ولن يثنيني شيئ عن ذلك …
…
إنتهت وإلى اللقاء في الجزء الثاني، بعنوان الكلب المربوط بسبعة سلاسل
من قصص حكايا العالم الاخر “واقعية ”