مقالات
الْمَشورَةُ والْعَزِيمَةُ: أ.د. لطفي منصور
وَإذا كانَتِ الْعَزائِمُ حَديدًا تَهاوَتْ أمامَها الأخْشابُ.
بِالْعُقُولِ والْعَزائِمِ وَالْإصْرارِ تَنْهَضُ الأُمَمُ، لا تَقُلْ إنِّي لَا أَسْتَطِيعُ، واللَّهُ سُبْحانَهُ يَقُولُ: “وَشاوِرْهُمْ في الأَمْرِ، فَإذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ، إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ”. أَيْ يستجيبُ لَهُم.
الْمَشُورَةُ الْحَسَنَةُ مِنْ أَسْبابِ النَّجاحِ . قالَ اللَّهُ في صِفَةِ الْمُؤْمِنينَ الذينَ يُقيمونَ الصَّلاةَ: “وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ” أَبْ يَتَشاوَرُونَ. وكانَ النَّبِيُّ عَلَيُ السَّلامُ يُشاوِرُ أَصْحابَهُ، وَحاصَّةً أبا بَكْرٍ وَعُمَرَ وَأبا عُبَيْدَةَ وَغَيْرَهمْ مِنْ أَصْحابِ التَّجْرِبَةِ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، يُشاوِرُهُمْ في أمورِ الدُّنْيا والدِّفاعِ عَنِ الإسْلامِ. وَالدَّلِيلُ عَلَى هَذا فِعْلُ الأَمْرِ “شَاوِرْهُمْ” الذي يَعْني الْجَماعَةَ.
يُعْتَبَرُ أَميرُ الْمُؤْمِنينَ عُمَرُ الْفاروقُ الْمُؤَسِّسَ الأَوَّلَ لِمَجْلِسِ الشُّورَى في الإسْلام بَعْدَ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلامُ. فَقَبْلَ وَفاتِهِ بِطَعْنَةِ أَبي لُؤْلُؤَةَ الْمَجوسِيِّ مَوْلَى الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ الثَّقَفِيِّ، أَمَرَ بِتَشْكِيلِ مَجْلِسِ شُورَى لِانْتِخابِ خَليفَةٍ بَعْدَهُ، مُكَوَّنًا مِنْ سِتَّةٍ مِنْ كِبارِ الصَّحابَةِ الْمُبَشَّرِينَ بِالْجَنَّةِ، وَعَيَّنَ ابْنَهُ عَبْدَ اللَّهِ لِيُرَجِّحَ الْكِفَةَ إذا انقسمَ أَعضاءُ الْمَجْلِسِ لٍفَريقَيْنِ مُتَساوِيَيْنِ، دونَ أنْ يكونَ لَهُ حَقٌّ في الٍخِلافَةِ. وَهَذا مِنْ عَبْقَرِيَّةِ عُمَرَ الذي لَمْ يَكُنْ يُريدُ أنْ تُصْبِحَ الْخِلافَةُ بِالْوِراثَةِ، كَما صَنَعَ مُعاوِيَةُ بْنُ أَبي سُفْيانَ بِتَوْريثِ ابْنِهِ يَزيدَ الخِلافَةَ بَعْدَه. وكما صَنَعَ عَبْدُ المَلِكِ ( أبو الْمُلوكِ الأرْبَعَةِ) في حَصْرِ الخِلافَةِ في بَنِي أُمَيَّةَ. وَكَذلك فَعَلَ الْعَبَّاسِيُّون.
مِنْ فَوائدِ الشُّورَى أنَّها تَمْنَعُ الِانْفِرادَ بِالرَّأْيِ. فالقَرارُ الْمُتَّخَذُ مِنْ طاقَمٍ أعْضاؤُهُ مِنُ أَصْحابِ الْخِبْرَةِ وَالتَّجْرِبَةِ يكونُ حَتْمًا أَقْرَبَ إلَى الصَّوابِ مِنْ قَرارِ الْواحِدِ.
وَالْمَشورَةُ فَضِيلَةٌ في كُلِّ مَناحي الْحَياةِ، فَشاوِرْ أقْرٍباءَكَ المُقَرَّبينَ ذوِي الْعٍلْمِ والْمَعْرِفَةِ والدِّرايَةِ،
وَأَصْدٍقاءَكَ الْمُخْلِصينَ لَكَ العالِمينَ بالأمُورِ، أصْحابَ الرَّأْيِ الثّاقِبِ، ولا تَسْتَشِرْ الجاهلينَ المُتَهَوِّرينَ سَريعي الْغَضَبِ والانْفِعالِ، الَّذينَ لا تَجْرِبَةَ لَهُمْ، وَلا خِبْرَةَ لَدَيْهِم.
وَقَبْلَ أنْ تَتَّخِذَ قَرارًا، وَقَدْ تَعَدَّدَتِ الآراءُ لَدَيْكَ، وَأَصْبَحْتَ في حَيْرَةٍ، مُرَّ عَلَيْها واحِدًا واحِدًا، ثُمَّ صَلِّ رَكْعَتَيِ الاسْتِخارَةِ، وَادْعُ رَبَّكَ أَنْ يُلْهِمَكَ الصَّوابَ، وَأَنْ يُسَدِّدَ طَريقَكَ، واخْتَرْ الرَّأْيَ القَريبَ إلَى قَلْبِكَ، مَعَ الْخُشوعِ وَصِدْقِ النِّيََةِ. فَاللَّهُ يُوَفِّقُكَ إلَى اختيارِ الصَّوابِ بِأمْرِهِ.
أمّا الْعَزيمَةُ فَلِي في بَيانِها ثَلاثَةُ مَصادِرَهي:
– القرْآنُ الْكَريم: “فَإذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ”. فاللَّهُ يَدْعونا إلَى الْعَزِيمَةِ التي تُفَتِّتُ الصَّخْرَ، وَتَلِينُ لَها كُلُّ صُعوبَةُ.
– الْحَديثُ النَّبَوِيُّ الشَّريفُ الذي عَلَّمنا مَنُ هُمْ أَولو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وهم: نوحٌ، إبراهيمُ، مُوسَى، عيسَى وَمُحَمَّدٌ صَلواتُ اللَّهِ عليهِم جميعا.
– بيتا المتَنَبِّي شاعِرُ العُروبَةِ قَديمًا وحَديثًا:
عَلَى قَدْرِ أَهْلِ الْعَزْمِ تَأْتِي الْعَزائِمْ
وَتَأْتٍي عَلَى قَدْرِ الْكِرامِ الْأَكارِمُ
وَتَكْبُرُ في عَيْنِ الصَّغِيرِ صِغارُها
وَتَصُغُرُ في عَيْنِ الْعَظيمِ الْعَظائِمُ
إلَى هُنا.