مكتبة الأدب العربي و العالمي

ملاك النوم” بقلم تفاحة سابا

تحيا عطرة رغم الغياب كنتم على البال دائما وأبدا، سعيدة بعودتي البيكم ولأننب أود أن ابشكركم بقديمي الذي سيصبح جديدي مبكرا، (دفاتري) اخترتها لكم من مجموعتي القصصية الأولى التي لم تنشر بعد كما عوتكم وعودت على رأيكم الذي أحترمه وأقدره عاليا لأن قرائي هم نقادي أولا وأخيرا، اليكم قصةبعنوان “ملاك النوم” لمن عنده صبر على القراءة ويهتم بها ويناقشها:

استيقظت منى البيطار مبكرًا كالعادة تبحث عن ذاتها الَّتي أصبحت قلة النوم تنهك قواها، رغم أنها عاشته سنوات عمرها تستيقظ نَشِطةً بطاقةٍ هائلةٍ تُنجِز بها الكثير من الأعمال دون كلل أو ملل، ولكنها أصبحت تشعر بجوع النوم الَّذي لا سبيل له، تستنجد به كلما صحت منه ترجوه أن يعود إليها وتنتظره فِي سريرها دون أمل.
أخذت تتساءل: من الَّذي يوقظها؟ ولماذا لا تنام مثل بقية البشر؟ ما الذي يقلق نومها؟ لماذا تصحو بعد أربع ساعات أو أقل؟ هل تبتلع حبة منوم أخري حَتَّى تنام؟ عادةً هذا ما تفعله، لكنها قرَّرَتْ هذا المرة أن تجلس وتكتب قصتها معَ النوم، عسى أن ترتاح منه. قررت أن تغوص فِي أعماق روحها، تستنجد بها لتغوص فِي ذاكرتها، وتسبح فِي عقلها الباطن علَّها تفرج عن الموءود فيه…
صبَّت كوبًا من الماء. أخذته معها إلى مكتبها. وضعته بجانبها وشفطت منه شفطةً صغيرةً، ثم جلست أمام اللابتوب فِي صباحٍ يلفُّه الهدوء من كل صوب… ضغطت على المفتاح، ورشفت القليل من ماء الكوب فِي انتظار أن يستيقظ اللابتوب من نومه العميق.
أخذت تتأمل النور الَّذي بدأ يبزغ رويدًا رويدًا من النافذة الواسعة، وبدأ نور الشاشة يُشعُّ معلِنًا أنه استجاب لها، وسمعت الرنة الجهورية لمحرك الجهاز يعلن لها أنه جاهز. تذكرت أنها نسيت أن تخفض صوته قبل أن تنام. أخذت شفطة أخرى من الماء، وجلست على كرسي المكتب. عدلت ارتفاعه، وواجهَتها صفحة بيضاء أخذت تنظر إليها بعمقٍ وتفكر! من أين تبدأ؟ وكيف تكتب قصتها، وخيالها تتعارك فيه الحكايات ومعركتها الشخصية معَ النوم؟
قررت منى البيطار أخيرًا أن تبحث عن أصل الحكاية وكيف بدأت… ولماذا لا تنام؟
غاصت فِي طفولتها علَّها تجد فيها شيئًا تضع عليه اللوم، فلم تجد شيئًا يُذكر. انسابت إلى عقلها الباطن… تغلغلت فيه… قفز ملاك النوم أمامها… استدرجته ليحكي لها قصتها معَ النوم.
قال لها: عندما كنتِ طفلةً… كنتِ تخافين الظلام.
سألته: لماذا؟
أجابها وهو يتثاءب: لأنك كنت تُجْبَرين على النوم عندما يحلُّ الظلام، حَتَّى يتخلَّص الأهل من شقاوتك، أو عندما يريدون الخروج فِي المساء.
كان إخوتك ينامون بسهولة، أما أنتِ فكنتِ تنظرين إلى سقف الغرفة وتتساءلين: لماذا هذا السقف الَّذي يحرمني النسيم؟ لماذا لا أنام فِي أرض الدار؟ السقف يقبض صدري ويحدُّ من جموح خيالي، والـ…
قاطعته والدهشة تلفح وجهها: هل كنت أردِّد حقًّا هذا القول؟ لا أصدق ما تقول. أنا أخاف من النوم فِي العراء!
قاطعها ملاك النوم مشيرًا بيده أن تسكت وتستمع: طلبُكِ رُفِضَ يا منى، رغم أنك توسَّلتِ إلى جدتك الَّتي تنام معك على نفس السرير فِي إحدى الليالي أن تنامي وإياها فِي النصف المُغَطَّى من ساحة الدار عسى أن تساعدك النجوم الساطعة فِي ظلام الليل على النوم.
شهقت جدتك يا منى قائلةً:
– هل تريدين أن تأكلك الغولة الَّتي تتجوَّل فِي ساحة البيت فِي الليل؟
نظرتِ إلى جدتك مرعوبة، وسألتِها بهلع:
– أين هي الغولة؟ أنا لا أراها فِي ساحة الدار… ما هو شكلها؟
– الغولة وحش أسود ضخم يأكل الأطفال ويرمي عظامهم فِي بئر الماء… انظري إلى البئر فِي وسط الدار. إن الغولة هناك تنتظر أحدكم أن يخرج من غرفته لتلتهمه لأنها دائمًا جوعانة…
سرحت منى فيما سمعت، ولم تستطع أن تتذكر شيئًا مما تسمع… هزَّها ملاك النوم برفقٍ من دوخانها قائلًا: اهتزَّ جسدُك الصغير يا منى بما قالته جدتك، ونظرتِ بطرف عينيك إلى ساحة الدار المظلمة. سكنك الرعب عندما شاهدتِ خيالًا أسودَ ضخمًا يجثم على بئر الدار. أغلقت عينيك والتصقت بجدتك… حبستِ دموعك… ولكنك لم تستطيعي أن تحبسي شعورك بأنك فِي حاجةٍ شديدةٍ إلى التبول. ضممتِ فخذيك حَتَّى لا ينساب البول من مكمنك…
تنهَّد ملاك النوم حزينًا، وأكمل قائلًا: عندما شاهدت الجدة رعبك، حاولت أن تهدِّئ من روعك، لكن ذعرك اشتد، وأخذت تنظرين بطرف عينك، وتركتِ الأخرى مغلقةً بقوةٍ من خوف ما شاهدت… هيكل أسود فوق البئر! تصورتِ أنه ينظر إليك، ويدعوك أن تكوني وليمته لتلك الليلة…
نظر ملاك النوم بعمق إلى عينَيْ منى وأردف:
– ارتعدت فرائصك يا منى وأنت تتصوَّرين أنه سيأكلك بعد أن يفتكَ بك ويقطعك إربًا، ويتناولك قطعة قطعة. كان لديك خيال جامح أكبر من طفولتك… استغثت بجدتك الَّتي كادت أن تختنق من انقباض ذراعيك حول عنقها، وتعجبت جدتك وحدَّثَتْ نفسَها: من أين لحفيدتي الصغيرة هذه القوة لدرجة أنها منعتني من فك ذراعيها عن رقبتي، وكادت أن تخنقني!
أضاف ملاك النوم وهو ينظر بعمق إلى عيني منى: كنت تنتفضين مثل عصفور معلَّق بأسنان نسر. شددت الخناق حول عنق جدتك، وكلما حاولت أن تبعد ذراعيك عن عنقها، ضغطتِ عليها أكثر، حَتَّى كدت حقًّا أن تخنقيها. أصاب الجدةَ الندمُ على ما فعلته بك… وحاولت أن تهدِّئ من روعك قائلةً: الغيلان يا صغيرتي لا يأكلون الأطفال… إنهم يأكلون الأشرار فقط.
لم تسمعي شيئًا مما تلفَّظت به جدتك يا منى، لأن الرعب امتلك خيالك، وأصبح يصوِّر لكِ أن الغولة نزلت عن البئر، وأخذت تطرق بأقدامها الضخمة أرض الدار… ثم هيَّأ لكِ خيالك الواسع أنها تطرق باب غرفتك تريد أن تلتهمك… واشتدَّ التصاقك بجدتك الَّتي كان النوم قد غلبها، فأمرتك بغضبٍ وبكفٍّ مفاجئٍ على وجهك أن تنامي، ثم أضافت محذرة بسبَّابتها وبغضب شديد: إذا لم تسمعي كلامي سأرميك إلى الغولة. لكن جدتك تراجعت بسرعة بعد أن هالها الرعب الَّذي ارتسم على وجهك البريء، وأخذت تربِّت على خدك الَّذي صفعته قبل قليل، تقبله وهي تحضنك وتهدهد روحك:
– نامي يا صغيرتي. الغولة لا تأكل النيام.
عند ذلك يا منى أغمضت عينيك تجبرينهما على النوم… ولكن خيالك لم يهدأ… وشددتِ جفنيك حَتَّى تُبعدي عنهما صورة الغولة، ودفنت رأسك فِي صدر جدتك، فأيقظتِها ثانية بعد أن غلبها النعاس، فأخذت تمسِّد رأسك وتقرأ آيات من القرآن الكريم حَتَّى غفوتِ فِي نوم عميق. وبعد أن استرخى جسدك، حررت الجدة عنقها من ذراعيك، فوجدتهما ساخنتين. نظرت إليك بقلق، فوجدَتك ترتجفين من السخونة، وعندما مسَّتكِ شعرت بسخونتك تلسع يديها المعروقتين.
رفعت ضوء الفانوس ونظرت إليك فوجدتك محمرة الجفنين والخدين والشفتين، هزها منظرك… أحضرت طاسة الرعب الموسومة بالآيات القرآنية وضعت فيها الماء، بسملت وقرأت المعوذتين وسقتك منه وهي تقرأ أدعية الشفاء… ثم سقتك جرعة أخرى من الماء، وأخذت تبلل جسدك الساخن بالباقي منه. فِي الصباح حملوك إلى المستشفى ليعرفوا سر حرارتك ولم يجدوا لها سببًا مرضيًّا، وقال لهم الطبيب أن ما بك هو تهيُّج عصبي فقط… عند ذلك توقف ملاك النوم عن الحديث، وتوقفت منى عن الكتابة…
شربت منى الماء الباقي فِي الكوب… وشعرت بظمأ شديد، فتوجَّهت بكوبها إلى الثلاجة، وملأته بالماء المثلَّج، وشربته دفعة واحدة… شعرت بحُمّى أصابتها فجأة، أخذت تطفئها بمزيد من الماء المثلَّج. ثم عادت إلى مكانها تقرأ قصتها، وأخذت تتذكر ما حصل لها وهي طفلة، وكأنه لم يفت عليه أكثر من أربعين عامًا.
تذكرت منى التفاصيل الدقيقة لتلك الليلة الَّتي تعرَّت أمامها بما فيها شكل الغولة السوداء على البئر… وصوت أقدامها، ووقوفها أمام الباب تطرقه طرقات رتيبة… وتذكرت أنها أصبحت منذ تلك الليلة تهتز كلما أقبل الليل… وتجد صعوبةً خارقةً فِي النوم دون حبة الدواء الَّتي وصفها لها الطبيب… دواء عرفت فيما بعد أنه حبوب مهدئة تساعدها على النوم. ظلت تتناول هذا الدواء كل ليلة على الرغم من تيقُّنها بأنه ليس فِي ساحة الدار غولة، ولا يوجد وحش يأكل الأطفال، وأن ما شاهدته هو خيال حبل البئر الغليظ المعلَّق عليه وعاء كبير من المطاط الأسود يُستعمل لجلب الماء، تذكرت أنها كانت هي وإخوتها يتنافسون على شدِّه وإخراج وعاء الماء لأمهم، وكان إخوتها يمنعونها خوفًا من أن يسحبها السطل المطاطي الأسود إلى البئر عندما يندفع حبل الحلقة بسرعة إلى البئر. تذكرت أنها منذ تلك الليلة ابتعدت عن البئر… حاولت مرةً واحدةً النظر فِي أعماقه، فأصابتها دوخة وغثيان…
فقد شاهدت الغولة فِي قاع البئر.

فلوريدا – 27 نوفمبر 2008

(

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إغلاق