مقالات
ما الذي غَيَّرَكَ أيُّها المَعَرِّيُّ حَتَّى جَنَحْتَ إلَى إنكارِ الرَّجْعَةِ، والثَّوابِ والْعِقابِ والْمناسِكِ؟
البروفيسور لطفي منصور
ما الذي غَيَّرَكَ أيُّها المَعَرِّيُّ حَتَّى جَنَحْتَ إلَى إنكارِ الرَّجْعَةِ، والثَّوابِ والْعِقابِ والْمناسِكِ؟
فَبَعْدَ أنْ قُلْتَ في شَبابِكَ: مِنَ الْخَفيفِ
غَيْرُ مُجْدٍ في مِلَّتِي واعْتِقادِي
نَوْحُ باكٍ وَلا تَرَنُّمُ شادِي
صاحِ هَذي قُبورُنَا تَمْلَأُ الرُّحْ
بَ فَأَيْنَ الْقُبورُ مِنْ عَهْدِ عادِ
خَفِّفِ الْوَطْأَ ما أَظُنُّ أَديمَ الْ
أَرْضِ إلَّا مِنْ هَذِهِ الْأَجْسادِ
وَقَبِيحٌ بِنَا وَإِنْ قَدُمَ الْعَهْ
دُ هَوانُ الآباءِ وَالْأَجْدادِ
سِرْ إِنِ اسْطَعْتَ في الْهَواءِ رُوَيْدًا
لا اخْتِيالًا عَلَى رُفاتِ الْعِبادِ
رُبَّ لَحْدٍ قَدْ صارَ لَحْدًا مِرارًا
ضاحِكٍ مِنْ تَزاحُمِ الأَضْدادِ
———-
ثمَّ وَصَلْتَ إلى قِمَّةِ الْإيمانِ إلى الرُّجوعِ والنُّشورِ.
والثَّوابِ والعقابِ حينَ قُلْتَ في القصيدَةِ نفسِها، – التي كَرَّسْتَ مقدِّمَتَها لتعلِّمَنا حُسْنَ الأخْلاقِ، وَرَوْعَةَ الْقِيَمِ الإنسانيَّةِ، التي تتمثَّلُ بِنَبْذِ التِّيهِ وَالْكِبْرِ والْخُيَلاءِ حتّى في المَشْيِ –
خُلِقَ النَّاسُ لِلْبَقاءِ فَضَلَّتْ
أُمَّةٌ يَحْسَبونَهُمْ لِلنَّفادِ
إنَّما يُنْقَلونَ مِنْ دارِ أعْما
لٍ إلَى دارِ شَقْوةٍ أَوْ رَشادِ
ضَجْعَةُ الْموتِ رَقْدَةٌ يَسْتَرِيحُ الْ
الْجُسْمُ فيها، وَالْعَيْشُ مِثْلُ السُّهادِ
———
في البيتِ الأَوَّل من هذه القطعةِ تَحْمِلُ على الدّهْرِيِّينَ الذينَ يقولونَ: لا يُمِيتُنا إِلَّا الدَّهْرُ، وما هي إلَّا الْحَيَاةُ الدُّنْيا، لا رَجْعَةَ وَلا نُشورَ. فَكَذَّبْتَهُم في البيتِ الثّاني وَآمَنتَ بِانتِقالِ النَّاسِ من الدُّنْيا، وسمِّيَتْ بدارِ الأَعمالِ لِأَنَّ الْعِبادَ يعملونَ فيها لآخِرَتِهم، فالأعمالُ تنقطِعُ في الآخِرَةِ، وأقْرَرْتَ بالْجَحيمِ (دار الشقوةِ) والنَّعيمِ (دارُ الرَّشادِ).
أَلَمْ تكتبْ لنا في قُوَّتِكَ وشبابِكَ رِسالَةَ الْغُفْران، ووصفتَ الْجَنَّةَ والنَّعيمَ يَحْدوك الترغيبُ لسلوكِها، ثمَّ عَكَفتَ عَلَى الْجَحِيم بمنازِلِها السَّبْع فَلَمْ تَتْرُكْ منظرًا مُرْعِبًا في التعذيب إِلَّا أتَيْتَ به.
فأنْتَ في إيمانَكَ بالثوابِ والْعِقاب، وما يُرادُ من المؤْمِنِ أكثرُ من هذا؟
ووصفتَ الْموتَ ضِجْعَةً لاستراحةِ الْجِسمِ، وما الحياة إِلَّا كَسَهْرَةٍ يَقضيها الأحياءُ. ويستفادُ من هذا أنَّكَ أنكرتَ عذابَ القبرِ وناكِرًا ونَكيرًا، إِذْ لا تستوي ضجعةُ الاستراحةِ مَعَ عذابِ القبرِ، هذا الشَّبَحُ الْمُخِيفُ الذي يَقُضُّ مَضاجِعَ الصِّغارِ والكِبارِ، وترتعِدُ فرائِصُهُم، عندما يبدأُ جَهَلَةُ الدِّينِ بتلقينِ الْمَيْتًِ.
كُنْتَ في شَبابِكَ حتّى أواسِطِ كهولَتِكَ في قِمَّةِ الْإيمانِ، فَلَمَّا ناهَزْتَ الشَّيْخوخَةَ أخَذَتْ تُساوِرُكَ
أَفْكارٌ أُخْرَى تُناقِضُ ما آمَنْتَ بِهِ.
وفَجْأَةً طَلَعتَ عَلَيْنا يا رَهينَ الْمَحبسيْنِ بِلزومياتِكَ التي استودَعْتَها آراءَكَ في الموتِ والْحَياةِ والإنسان والْوُجود، والأديانِ والرُّسُلِ
والْكُتُبِ، وَأخذْتَ تّنْكِرُ الرَّجعَةَ وتقولُ بقَوْلِ الدَّهريينَ عندما قُلْتَ: من الطويل
ضَحِكْنا وكانَ الضَّحْكُ مِنَّا سَفاهَةً
وَحَقٌّ لِسُكّانِ الْبَسِيطَةِ أنْ يَبْكُوا
يُحَطِّمُنا رَيْبُ الزَّمانِ كَأَنَّنا
زُجاجٌ وَلَكِنْ لا يُعادُ لَنا سَبكُ
فهذا إنكار واضحٌ للحياةِ الثانيَةُ، واعترافٌ تامٌّ بالدَّهْريِّةِ.
ثمَّ تَناوَلْتَ الأديانَ السماوِيَّةَ كُلَّها وغيرَها وأنكرتَ شرعيَّتَها، ووصفتَ الدَّيِّنَ فاقِدَ العقلِ عندما قلت: من الكامل
هَفَتِ الْحَنيفَةُ وَالنَّصارَى ما اهْتَدَتْ
وَيَهودُ حارَتْ والْمَجوسُ مُضَلَّلَهْ
اِثْنانِ أهْلُ الْأَرْضِ: ذو عَقْلٍ بِلا
دِينٍ وَآخَرُ دَيِّنٌ لا عَقْلَ لَهْ
———
ما الذي حَوَّلكَ يا أبا العلاء؟ هل صحيحٌ أنك كُنتَ تدينُ في منهجِ حياتِكَ بدينِ البراهمةِ؟ لا يمكن ذلك لأنهم بوذيون ينخرطونَ في صفِّ الْمَجُوس.
أصحيحٌ أنَّكَ كفرْتَ لِمَوتِ والِدَتِك؟ لا يُمْكِنُ هذا لأنَّكَ أعرَفُ النَّاسِ بحقيقَةِ الموتِ.
أهُوَ ظُلْمُ الْوُلاةِ وحكّامِ الْمسلِمينَ الذي عانَيْتَ منه في بَدَنِكَ وروحِك؟ لا يا أبا الْعَلاء، ومتى كانَتِ العدالَةُ لَهَا أرجُلٌ في بلادِ المسلمينَ الذينَ استحرَّ القتلُ فيهم، من أبناءِ جِلْدَتِهم من جاهليَّتِهِم حتى يومنا هذا، ولَم يصنَعِ الإسلامُ شَيْئًا لِإخمادِ أُوارِ نارِهم بل زادَها وَقودًا، كما هو واضِحٌ وشاخِصٌ أمامَنا.
في اعتقادي تحوُّلُكَ هذا كانَتْ له جَذْوَةٌ مُنْذُ وُلِدْتَ، وفقدْتَ الْبَصَرَ لا الْبَصيرَة التي زادتْها الطبيعَةُ إيقاظًا وَحِدَّةً.
إنَّهُ عَقْلُكَ الكبيرُ الْكَبير الذي اتّسَعَ الْعالم، وعرَفَ حقيقَةَ الْوُجود.
لقد سخرتَ من العقائد عندَما قُلْتَ في الْحجيج:
من المتدارك
وَقَوْمٌ أَتَوْا مِنْ أقاصي الْبِلادِ
لِنٌَحْرِ الْجَزورِ وَلَثْمِ الْحَجَرْ
عَجِبْتُ لِكِسْرَى وَأشْياعِهِ
وَغَسْلِ الْوُجوهِ بِبَوْلِ الْبَقَرْ
وَقَوْلِ الْيَهودِ إِلَهٌ يُحِبُّ
رَسِيسَ الدِّماءِ وَرِيحَ الْقَتَرْ
وَقَوْلُ النَّصارَى إِلَهٌ يُضامُ
وَيُظْلَمُ حَيًّا ولا يَنْتَصِرْ
فيا عَجَبي مِنْ مقالاتِهِمْ
أَيَعْمَى عَنِ الْحَقِّ كُلُّ الْبَشِرْ
——-
وصلتِ الدّواعشُ قَبركَ فنبشوهُ، نبشَ اللّهُ قُبورَ آبائِهِم وأجْدادِهم وقبورَههم بعدَ موتهم، ونشرها في الْخَلاءِ، لتأكُلَها الْكِلابُ الضّالَّةِ.
فَوَاللّهِ لَفَصْلٌ ممّا كتبتَ في جَنَّةِ كُتُبِكَ خَيْرٌ من عقائدِهمِ الباليَةِ المتآمِرَةِ على الأُمَّةِ الإسلاميَِّة.