مقالات
أوسلو اللبناني: ليس مجرّد غاز وحدود بحريّة
كلّ الأطراف ذات الصلة بترسيم الحدود البحرية بين لبنان وإسرائيل، لها مصلحة ملحّة في إتمام هذا الاتفاق… ولهذا تمّ إقراره.
1- العرّاب الأميركي: بحاجة إلى إنجاز يشكّل اختراقاً في الملفّ الشرق أوسطيّ، ولهذا الاختراق قيمة معنوية وسياسية ذات شأن، ومن ضمنه أنّ اتفاقاً كهذا سيسدّ نقصاً مؤرقاً في الطاقة، وبالمحصّلة يسجّل نقطة لمصلحة الغرب في حرب أوكرانيا.
2- الطرف الإسرائيلي: إلى جانب الميزة الاقتصادية والماليّة التي سيوفّرها حقل كاريش مع حصّته من حقل قانا، فهو يرى في الاتفاق بعداً أمنيّاً استراتيجيّاً يغيّر قواعد اللعبة مع لبنان والطرف المباشر في هذا الأمر حزب الله، الذي إلى جانب قيوده المعروفة على حركته في القتال مع إسرائيل، وُضع قيد جديد عليه، وهو أكثر فاعليّة، يصل عمليّاً إلى تحييده من خلال هذا الاتفاق.
3- أمّا الطرف اللبناني: فأوّلاً وأخيراً سيرسّم حدوده المائية مع إسرائيل، وليس أفضل من هذا الظرف والدافع لفعل ذلك، ومنطقيّاً سيليه في وقت لاحق ترسيم الحدود النهائيّة جميعاً، من دون إسقاط المزايا الاقتصادية الضرورية للبنان.
اللبنانيون نضجت لديهم خبرة في مجال التفاؤل والتشاؤم تجاه أيّ اتفاق مع إسرائيل، وكذلك حول فاعليّة التدخّل الدولي أوروبياً أو حتى أميركياً
ما حدث بين لبنان وإسرائيل، الذي ما كان له أن يحدث لولا الدخول المباشر والقويّ للعرّاب الأميركي، يسجّل نقطة مهمّة لمصلحة العلاقات العربية الإسرائيلية المستجدّة التي عنوانها في هذه المرحلة “اتفاقات أبراهام”، وقبلها العلاقات المصريّة الإسرائيلية والأردنية كذلك.
خريطة لبنان في “السلام”
صحيح أنّ الحلقات لم تكتمل، وأنّ المستجدّ ليس متطابقاً بين جميع أطرافه، إلا أنّ الأمور تبدأ هكذا وتسير في مجراها نحو السعي إلى فرض واقع جديد في المنطقة أساسه التسويات واستبعاد الحروب. غير أنّ العلاقات المستجدّة مع إسرائيل بأشكالها وعناوينها المختلفة لن تستقرّ على هيئة تطبيع جماعي، ما دامت الحلقة الخليجية غير مكتملة ولا يلوح في الأفق ما يشير إلى اكتمالها، وما دامت باقي الحلقات العربية، وهي كثيرة ومهمّة، ما تزال تربط علاقاتها بإسرائيل سلباً أو إيجاباً بحلّ القضية الفلسطينية، التي في حال الهدوء اللبناني وضعف مواجهة العدوان الإسرائيلي المستمرّ على سورية وإيران من دون ردود مقنعة، تظلّ البؤرة النشطة في الاشتعال من دون ظهور أيّ إمكانيّات واقعية لاحتوائها لا بالقمع ولا بالتسوية.
يسود الفلسطينيّين شعورٌ بأنّهم الاستثناء المتبقّي في العلاقات المستجدّة مع إسرائيل. ويغذّي هذا الشعور المحبط الطريقة التي تتعامل بها إسرائيل معهم: العصا الغليظة والجزرة المرّة.
يترافق هذا الشعور مع إهمال أميركي وحتى أوروبي، يُسجِّل عمليّاً دعماً مباشراً وفعّالاً للنهج الإسرائيلي الأساسيّ في التعامل معهم، وملخّصه لا تسوية سياسية بل تنقيط في الحلق تحت عنوان الحلّ الاقتصادي، ويغطّي ذلك قول إسرائيلي، لكن بصوت خافت، عن حلّ الدولتين مع قول أميركي بصوت مرتفع يرى حلّ الدولتين غير قابل للتنفيذ لا على المدى القريب ولا حتى البعيد، كما قال الرئيس الأميركي جو بايدن في بيت لحم، ولا الأبعد…
اللبنانيون نضجت لديهم خبرة في مجال التفاؤل والتشاؤم تجاه أيّ اتفاق مع إسرائيل، وكذلك حول فاعليّة التدخّل الدولي أوروبياً أو حتى أميركياً. قد تكون الاتفاقات محكمة النصوص وعالية الدقّة في الآليّات، إلّا أنّ الواقع الذي لا يستطيع لبنان النأي بنفسه عنه هو من الهشاشة واحتمال تغيير الاتجاهات على نحو تتساوى فيه المزايا مع المحاذير والسلب مع الإيجاب. وإذا كانت الحاجات هي أمّ المبادرات والعامل الأهمّ في إنجاز الاتفاقات، فإنّ الحاجات تتغيّر كذلك وتملي سلوكاً مغايراً، وخصوصاً في منطقتنا التي لا استقرار فيها لأيّ تسوية ولا مجال للإفلات النهائي من رمالها المتحرّكة.
في ظلّ الاضطرابات الإقليمية والدولية وحتى الداخلية في لبنان، فإنّ الاتفاق مع إسرائيل يُعتبر اختراقاً نوعيّاً مهمّاً لمعادلة الصراع القديمة، إلا أنّه بالمنظور الاستراتيجي الشامل يظلّ ورقة طُويت من ملفّ ضخم ما يزال مفتوحاً على الخطر.