فلسطين تراث وحضاره

بالصور: قرية كور.. وحنين لأيّام “عزّ”

وصلنا قرية كور قبيل المغرب، صعودًا من بلدة بيت ليد القريبة. قال لنا مرافقنا وهو يشير إلى الجهة المقابلة: كان أهالي يافا في الساحل الفلسطيني يسمّونها “حمامة البحر”، وكانت أضواؤها منارة لكلِّ القادمين، فحينما يقتربون من الساحل، تلوح أضواء كور من بعيد، وبذلك يعرفون أنّهم اقتربوا من فلسطين.

shareكان أهالي يافا الساحليّة، يسمّونها “حمامة البحر”، وكانت أضواؤها منارة لكلِّ القادمين إلى فلسطين

الواقف في وسط القرية يستطيع رؤية كلّ ما يحيطها بوضوحٍ من جميع الجهات، لوقوعها على قمة جبل مرتفع، وهو ما ميّزها تاريخيًا، وجعل أمراء الحرب يسكنونها، كما يقول الباحث في تاريخ القرى الفلسطينية حمزة ديرية.

فتاريخ القرية يعود إلى ما قبل 600 عام، حين سكنها قائد الجيش المملوكي الشيخ حرب، وبنى فيها أوّل قلعةٍ من قلاعها العسكرية، لتكون مقرًا له ولجيشه. وحسب الرواية الشعبية فإن “الشيخ حرب” حينما وصل إلى فلسطين، قام بتوزيع اللحوم على رؤوس الجبال ليعرف أيٌّ منها لا تأكله “الواويات/ الوحوش” ليسكنه، فكانت “كور” بموقعها الحالي، على قمة إحدى الجبال في الجنوب الشرقيّ لمدينة طولكرم.

اقرأ/ي أيضًا: الظاهرية.. غنيّة بالآثار فقيرة بالزوّار

ويعود نسب أبناء القرية بالكامل لهذا الجد، والذي بدأ ببناء أوّل الأبراج أو القلاع، وامتدَّ بناء مباني القرية من عصره الملوكيّ إلى الحكم العثمانيّ، وكانت آخرها قلعة الشيخ يوسف الجيّوسي، وهو ما جعلها تختلف عن كلّ القرى الفلسطينية؛ بأنّها قريةٌ مكوّنةٌ من 8 قلاع وتخلو من منازل للفلاحين.

فيما بعد، تحّولت كور بما تحوي من قلاع، إلى قريةٍ يسكنها أمراء الحرب فقط، وسُميّت “إمارة حرب على الدرب”، لوقوعها على طريق الجيوش القادمة لفلسطين.

كان لـ “كور” تاريخٌ ودورٌ سياسيٌّ بارزٌ، فقد كانت قرية من قرى الكراسي والحكم والإدارة في أيام المماليك والحكم العثماني فيما بعد، ووصل عدد القرى التي تتبعها إداريًا خلال الحكم العثماني إلى 24 قرية، وهو ما جعل لها تأثيرًا سياسيًا كبيرًا، وتحديدًا في الأحداث المفصلية في تاريخ فلسطين.

اقرأ/ي أيضًا: العيزرية.. معجزة للمسيح وكنيستان بينهما مسجد

يقول ديرية إنّ كل من سكن المنطقة في السابق كانوا من الأمراء المحاربين، وقلاعها تعدُّ من أجمل المباني في فلسطين، فقد أقيمت لغايات عسكرية دفاعيّة، وتحتوي اسطبلات للخيل وسراديب ومنارات عالية.

لم يكن هذا البناء صدفة، وإنما جاء ليخدم سكان القرية ويتماشى مع حياتهم العسكرية، وحماية الجيوش والأمراء في داخلها، وقد بنيت نوافذها على شكل كور صغيرة، بهذه الطريقة لترى من خلالها النساء ما يجري في الخارج ولا تُرى، فأهالي القرية عُرفوا تاريخيًا بحرصهم الشديد على نسائهم من الأغراب، فلم يصاهروا أحدًا من خارجها، ولم يكُن يُسمح لهُنَّ بالخروج من المنازل، حسبما يقول ديرية.

shareالصحف الصادرة في الأستانة كانت تصل كور، ليطلع عليها الأمراء

وتميّزت قرية كور في زمن العثمانيين بشكل ملحوظ، حتى أن الصحف الصادرة في الأستانة (اسطنبول) كانت تصل لكور ليتمكن سكّانها الأمراء من الاطلاع عليها، وهو ما يشير إلى المستوى المتقدم التي كانت تتمتع به القرية.

يبلغ تعداد سكّان القرية هذه الأيّام، 350 شخصًا، وجميعهم من عائلة جيوس التي تُعرف بها القرية أيضًا.

حالها تبدّل حال كور، من إمارة على درب المحاربين ومركز للحكم والإدارة، إلى قرية مهمّشة معزولة، يتهدد الهدم مبانيها التاريخيّة.

يقول المحامي فريد الجيوسي أحد أبناء القرية، إنّ “كور” تعاني من تهميشٍ كبير، ولا أحد يهتم بزيارتها والاطلاع على المخاطر الحقيقيّة التي تتهدد مبانيها، ما قد يؤدي إلى ضياع هذا الإرث التاريخي.

مشكلةٌ أخرى تفاقم الخطر المحدق بتلك المباني الأثرية، الانفجارات التي تُحدثُها الكسّارات الحجريّة القريبة. وقد حاول أهالي القرية التحرك ذاتيًا للحفاظ على إرث قريتهم الحضاري والمعماري، ونظّموا وقفات، ووجهوا مناشدات للفت أنظار المسؤولين لهذه المخاطر، إلّا أنّ تجاوبًا لم يحدث، من قبل الجهات الرسميّة.

ويشير الجيوسي إلى أنّ وزارة السياحة والآثار طلبت منهم تقريرًا مفصّلًا تكلفته عشرة آلاف دولار، لدراسة حالة القرية، والقيام بالإجراءات بناءً على التقرير، بعد أنّ توجّهوا إليها مشتكين ومنوّهين إلى خطورة التفجيرات، بعد ترخيص الجهات الرسميّة كسارة أخرى في الجوار.

الجهات الرسمية الفلسطينية تعاملت مع القرية على أنّها ممتلكات خاصة، دون أن تراعي التاريخ والإرث الحضاري الذي تشكّله تلك المباني، فبدل أن تقوم بترميمها، تطلب من الأهالي إعداد تلك التقارير والدراسات التي تقيّم الأضرار والأخطار، وفق الجيوسي.

ترميمٌ ذاتيّ

في غرفة بإحدى القلاع، قابلنا شوكت الجيوسي (63 عامًا)، الذي عاد من الولايات المتحدة الأمريكية، للعيش في قريته “كور”، وقام بترميم عدد من المنازل على نفقته الخاصّة.

تتوسّط الغرفة صورة مرسومة للجدّ الكبير يوسف الشيخ. يقول شوكت إنّه ترك العيش في الولايات المتحدة الأمريكية وانتقل مع وزوجته، قبل وفاتها، للعيش هُنا بالرغم من معارضة أبنائه للفكرة، لعدم حصوله على الهوية الفلسطينية.

شوكت الذي وُلد في كور، غادر البلاد بعد احتلال الضفة الغربية عام 67، وعاد لها قبل سنوات ليعيش من جديد في منزل جدّه. لكنّه يضطر للسفر إلى خارج البلاد كلّ ثلاثة أشهر، ويعود بعدها، وفقًا لقانون الإقامة. ويحرص على أن يتواجد هُنا في المواسم الزراعية كلّ عام، كموسم قطف الزيتون.

القلعة المكوّنة من أبنية متلاصقة، في طابقها الأرضي غرف مفتوحة على “حوش” كبير، وهذه الغرف كانت تستخدم لإعداد الطعام. وفي الجهة المقابلة تقع الاسطبلات وأماكن تربية المواشي والدواجن. ومن خلال درجٍ ضيّقٍ تصل للطابق الثاني الذي يضم غرفًا متعددة الاستخدامات، منها غرف المعيشة والنوم والاستقبالات. وتحتوي القلعة أكثر من ثلاثين غرفة أمامها شرفات مغلقة من جهة الشارع، بكور متراصة.

وبكثير من الأسى، ينظر الأهالي لهذه الأبنية التي كانت شاهدة يومًا ما على عزٍّ وسلطةٍ وحضارةٍ كانت تعيشها القرية، متأمّلين أن يتم ترميم هذا الإرث، والحفاظ عليه.

مقالات ذات صلة

إغلاق