ثقافه وفكر حر

الاغتراب الاجتماعي في ديوان “إلى حيث ألقت رحلها”

قراءة روز اليوسف شعبان

صدر ديوان الشاعر أسيد عيساوي ” إلى حيث ألقت رحلها”، في مركز الحضارة العربيّة ، القاهرة (2023) والتي قامت أيضا بتنسيق الكتاب ووضع لوحة الغلاف. يقع الديوان في 128 صفحة.

قبل تحليل النصوص الشعرية للشاعر لا بد أولًّا من تحليل عنوان الديوان ، الذي استخدم فيه الشاعر أسيد عيساوي التناص ” إلى حيث ألقت رحلها” وهي شطرة من بيت شعر للشاعر زهير بن أبي سلمى يقول فيه:
” فشدّ فلم تفزع بيوت كثيرةٌ لدى حيث ألقت رحلها أم قشعم”.
وأم قشعم هي المنيّة وتستعمل هذه العبارة في الدعاء على الغائب ألا يرجع. فنقول في لغتنا الدارجة( إلى جهنّم، إلى ستين قلعة، إلى الداهية).
هذا العنوان يدفع القارئ للتفكير مليًّا. من يقصد الشاعر؟ وعلى من يصبّ جمام غضبه؟ ثم تستوقفنا لوحة الغلاف وهي شجرة زيتون راسخة في الأرض، تحيطها يدان بدون رأس في حين يقف حنظلة بجانبها ويداه المعقوفتان خلف ظهره. فهل يرمز الرأس المقطوع إلى محاولة قتل الشعب وإبادته؟ وهل اليدان المتمسكتان بشجرة الزيتون دليل على المقاومة التحدي والثبات والصمود في الوطن؟

إن امتزاج العنوان مع اللوحة والألوان البنيّة والصفراء، تشير إلى نفسيّة الشاعر الغاضبة والمستاءة والثائرة على الوضع الراهن الذي يعاني منه شعبه، كما تشير إلى حالة من الاغتراب الاجتماعي. وقبل أن آتي بأمثلة من الديوان سأقوم بتوضيح مصطلح الاغتراب الاجتماعيّ.
الاغتراب الاجتماعي: يرى (إيريك فروم) أنّ تمتُّع الفرد بالحرّيّة أو حرمانه منها يؤدّي إلى الاغتراب الاجتماعيّ. فكَوْن الحرّيّة من مسبّبات اغتراب الفرد إن تمتّع بها، ذلك أنّها من الروابط التقليديّة، مع أنّها تعطي الفرد شعورًا جديدًا بالاستقلال؛ فإنّها، في الوقت نفسه، تجعله يشعر بالوحدة والعزلة، وتشحنه بالشكّ والقلق، وتوقع به في خضوع جديد ونشاط مُلزِم وغير رشيد. أمّا كَوْن فقدان الحرّيّة من مسبّبات اغتراب الفرد فلأنّ الاغتراب الفكريّ، أو العقلانيّ، يولد نتيجةً للقهر والطمس الناجم عن خضوع شخص ما لشخص آخر يمارس قواه وسُلطته الكاملة على تلك الشخصيّة، كما يرى هيجل.( شتا، السيّد عليّ (1984)، نظريّة الاغتراب من منظور علم الاجتماع، الرياض: عالم الكتب، ص 44.).
الاغتراب في حدود ما ينظر إليه وطفة هو الوضعيّة التي ينال فيها القهر والتسلُّط والعبوديّة من جوهر الإنسان، وهو الحالة التي تتعرّض فيها إرادة الإنسان أو عقله إلى الاغتصاب والقهر والاعتداء والتشويه.( وطفة، عليّ (1998)، “المظاهر الاغترابيّة في الشخصيّة العربيّة، بحث في إشكالية القمع التربويّ”، مجلّة عالم الفكر، الكويت: د. ن.، أكتوبر، مج. 27، ع.2 ).
يبدو في قصائد الشاعر اغترابّا اجتماعيا والذي يتمثّل بالضياع والشعور بسلب الحرية والشعور بالقهر والظلم كما نجد في الأمثلة التالية: فها هو يقول: هل أنا غريب عن هذا العالم؟ فلم يا ترى لا يسمع النداء؟ ص 24. فالشاعر يشعر بانعدام الأمن وبالضياع فيقول:” يا ياسمينة الشام يا زهرة كل المدائن وريحانة عالمي وتفاحة الانسان هل أجد لي مكانا أعيش به بين بتلاتك بأمان؟”. ص 43.وفي قصيدته أنا لن أقضي ظمأ يقول الشاعر:
” متى يا زمن تخلع عنك هذا الذل
متى تصرخ بأعلى الصوت
وتقول: أيها المغتصبون إلى هنا..
انتهى زمن الصمت
الناس خلقوا ليكونوا أحرارا”. ص 59.وفي قصيدته “ما عاد بي” يعلن الشاعر عن عدم مقدرته على تحمل المزيد من القهر فيقول
:” كفى كفى لي قهر
ما عاد بي
أكل البرد والثلج
الألم احتل جسمي من الرأس إلى الرجلين
سكاكين أُسكنت في القلب
وخناجر أُرسيت في الأكباد
سُفحت من شراييني الدماء
كفى لي صلب
كفى حرقا لأكلي وشربي
فيا نار هبي واشعلي محركي واخرجيني من هذا الغور
لأطير من عالم الغث والظلمات”. ص 60-62.
وفي خضمّ ضياع الشاعر يلجأ إلى الوطن الأم لتحميه فيقول:
” فمن بغيرك عندما النار اشتعلت ألوذ؟
ومن بغيرك من وهج النار أستعين؟
حينما الهمم شحت فليس لي إلا حبالك أستقي منها القوة وأستعير
أنا ابن قائد العيس يا حبيبتي
فافتحي لي بابك واستقبليني”. ص 76-77.
وفي قصيدته “يا حبيبتي” يخاطب الوطن الأم فيقول:
“وأسألك ماذا نفعل؟
قولي لنا كيف هو السبيل إلى وقف تدفق الدم؟
وقف الوجع وقف القلق
وقف ضياع الأمل
في القادم من أيامنا ووقف فقدان الحبّ لأنفسنا
التي تسبّبت بجرحك الثخين” ص 83.
وفي قصيدته “ما طعم الموت” يعبّر الشاعر عن توقه لأمه وغربته وضياعه فيقول:
” ما رائحة قهوتك وما طعم خبز تنورك
يا أمي ما شكل السعادة وما لون السرور”
أنا يا أمي ضائع في المتاهات
أسير في الوحدة وحيد. ص 112-114.

يستخدم الشاعر تقنية الحلم والاسترجاع، واستخدام الزمن النفسي، حيث يهرب الشاعر من الواقع ويستذكر احداثا من الزمن الماضي تثير في نفسه اللوعة والحنين. فنجده يستذكر حادثة استشهاد والده في معركة الشجرة فيخاطب والدته:” وبعد بعض من السويعات
جاؤوكِ بالنبأ العضال
جاؤوكِ بفارسك الذي طبع
على خدك قبلة الوداع في أول النهار
جاؤوك به محمولا على الأكتاف” ص .14
كما يسترجع الشاعر جنازة القائد جمال عبد الناصر فيقول:”
هل تصدقنا نحن الملايين الذين سرنا بأجرك
يوم ركبت الحدباء ونحن ننحبك
فلماذا استعجلت الركوب؟
لماذا قبلت لشمسك بالغروب؟ ص 19.
يستعين الكاتب بالتناصّ المأخوذ من التراث والتاريخ، ليؤكّد فكرة ما، كما فعل حين ذكر عبارة ” إلى حيث ألقت رحلها” التي وردت في بيت شعر لزهير بن أبي سلمى. بل وجعل هذه العبارة عنوانا لديوانه. كما نجده يستعين بأسماء أماكن وشخصيات من التراث والتاريخ مثل ذكره لجبل توباد، والشاعر قيس بن الملوح:
” أنا كابن الملوح لعشق العامرية
عشق أشعل به توباد”ص 44،
:” مددت بصري إليك(زرقاء جديس)” ص 36. وهو يقصد زرقاء اليمامة.:
“سائل الشريان يعرفه جان دارك وبات شيفع” ص 21.
كما يقتبس بيت شعر لا مرئ القيس:” ألا أيها الليل الطويل ألا انجل بصبح وما الإصباح منك بأمثل”. ص 57. كما يذكر الشاعر أسماء آلهة يونانية وكنعانية مثل: أبو فيس(اله الشر) وماعيت الهة الخير) فيقول:” أبو فيس ابتلع الضوء والحرس نيام “ازرعيني بعيدا في حضن ماعيت”. ص 63-64.
رغم ما يعانيه الشاعر أسيد من شعور بالاغتراب والقهر والظلم إلا أن الأمل يداعب قلبه فنجده يقول:” سأتعجل بزوغ الفجر
وسأمد يدي للنور ليسطع
وأكشف عورة المغتصب”. ص 58.
وفي قصيدته “أنا لن أقضي ظمأ” يعبر عن أمله بالحرية فيقول:” الأبواب المقفلة ستزول
الأقفال والقيود ستنكسر
وسينجلي الليل الطويل”. ص 57.
وفي قصيدته ” أنا عندي أمل” يخاطب بلاده الحبيبة فيقول لها:
“هل سأراك قبل الرحيل البعيد؟
هل ستعانقينني من جديد؟
هل ستتعانق شفاهنا من جديد؟
أنا عندي أمل.. عندي أمل..” ص 51.
اجمال:
يبدو الاغتراب الاجتماعي في ديوان الشاعر أسيد عيساوي” عندما ألقت رحلها”، باستخدامه لتعابير تدل على الغربة والضياع والقهر والظلم واللوعة والحنين، كما تميّز أسلوبه باستخدامه التناص من التراث والتاريخ واستخدامه تقنية الاسترجاع واستخدامه المكثف للرموز. ورغم ذلك إلا أن الشاعر مفعم بالأمل ومؤمن بالخلاص والحرية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إغلاق