ثقافه وفكر حر

صورة من معاناة اللاجئين الفلسطينيين وردت في كتاب الترانسفير المقنع للكاتب سمير ابو الهيجاء رحلة التهريب

زرت الحاج راشد رشيد ابو الهيجاءفي مخيم جنين فحدثني عن مغامراته في سبيل لقمة العيش فقال: في إحدى الليالي من صيف عام النكبة، اشتريت بضاعة من اليامون وحزمتها، وجهزت
نفسي للانطلاق في منتصف الليل، وكنا يومها عدة أشخاص، وفي الوقت المحدد
حمل كل منا بضاعته واتجهنا غربا إلى اسرائيل، كان ذلك أيام الحكم العسكري،
وكان الناس ممنوعين من الحركة وكل حركة تحتاج إلى تأشيرة. وصلنا إلى منطقة
الجعارة قريباً من قرية دالية الروحة المهجرة، في ساعات الليل، وإذ بصوت يصيح
بنا )مكانك قف(، لكننا لم نتوقف وصرخنا مرددين نفس الكلمات، ورفع كل منا عصاه
فحسبوا أننا نحمل أسلحة فغادروا المكان مسرعين، لقد كانوا أربعة جنود اسرائيليين،
ذهبوا وعادوا بالمدد، فاختبأنا في مكان منخفض وسط الطريق، وغطينا أجسادنا
بحزم من القش، ومر الجنود على أجسادنا ولم يرونا، حتى إنهم داسوا على ظهر
صديقي )إبراهيم(، الذي لم يستطع الصراخ من شدة الخوف، وبعد أن نجونا من هذا
الكمين واصلنا المشوار إلى قرية من قرى الكرمل لنبيع البضاعة، وانتظرنا في جوارها
حتى يخيم الظلام، ولما حان الوقت أرسلنا اثنين من مجموعتنا إلى القرية، لكنهما لم
يعودا حتى منتصف الليل، فذهبت بنفسي لأرى ما حدث، ولما وصلت إلى أحد البيوت
المعروفة لدينا، سمعت رجلا يصرخ في الداخل ويشتم، فدخلت ورأيته يصرخ بزميلي،
فصرخت به أليس من العيب والحرام أن تفعل ذلك، فارتبك الرجل وقال لهما لولا هذا
لقتلتكما، ثم أخذتهما وخرجنا من البيت .»
«أمضينا تلك الليلة مختبئين، وبقينا كذلك حتى الليلة التالية، ثم انطلقنا في طريق
العودة إلى حي العرب عن طريق المثلث، وقبل أن نصل مررنا بقرية (قمبازه )من قرى
الكرمل( وإذ بنا داخل معسكر لجيش اليهود، وكانوا قد اصطفوا لتناول طعام العشاء،
لكنهم لم ينتبهوا لنا، فقد كنا نرتدي نفس زي الجنود، لكن أحدنا ارتعد خوفاً ولم يعد
قادراً على التحرك ومواصلة السير، فخشيت أن يقبضوا علينا ويكون نصيبنا الرمي
بالرصاص، فحملناه على الأكتاف وانسحبنا .»
ويستذكر محدثنا بقية الرحلة محدثا عن الشاب الذي لم يستطع السير فيقول:
«حملناه من قمبازه إلى الجعارة، نحو 12 كم، لكن حالته ازدادت سوءا، خصوصا بعد
أن ضربته ضربا مبرحاً، فحسبناه مات وكانت هناك حفرة على شكل قبر فوضعناه
بجانبها ووضعنا بجانبه طسنة، وقلنا: «إذا أفاق أكل من الطعام وتبعنا وإذا مات مر
به أي انسان فدفنه »، وكنا مطمئنين أننا تركناه بجانب بلدة عربية، إذ سمعنا صوت
المؤذن، وكانت تلك البلدة هي أم الفحم. تابعنا سيرنا إلى قرية اليامون وتوجه كل
واحد منا إلى بيته فرحا بما حصل عليه من أموال تعينه على المعيشة .»
نهاية المطاف
« ليست نهاية الرحلة هي الوصول إلى البيت، بل الوصول وراحة الضمير، وكنا حتى
ذلك الوقت لا نعلم مإذا حصل لزميلنا الشاب. وبعد عدة ساعات من وصولي إلى المنزل
سمعت طرقا على باب بيتي، نظرت إلى الساعة فإذا هي الثانية عشرة ليلا، وأيقنت أن
الشرطة في الباب، وفعلاً ذلك ما كان، وتبين لي أن زميلنا افاق وتبعنا لكن ليس إلى
القرية بل إلى مركز الشرطة التي اعتقلتنا بتهمة (تغذية العدو(!
«طبعا أنكرنا التهمة واعترفنا أننا عدنا إلى أهلنا الذين بقوا في البلاد لنحضر منهم
مالا يعيننا على المعيشة، وبذلك ضمنا ألا نسجن أو يحكم علينا بالمؤبد جراء تلك
الرحلة .»
«لكن المؤبد جاء بعدم العودة إلى مسقط الرأس، فالحكم كان النزوح وعدم العودة
إلى الأبد .»
رحمك الله يا أبا رشيد فقد مت وأنت تحلم بالعودة، وتنتظرها، لكنك لم تدرك ذلك.

مقالات ذات صلة

إغلاق