مقالات
رؤية * نزيف المجتمع سلسلة: “نزيف الداخل الفلسطيني: نحو مشروع مجتمعي لكبح العنف والجريمة” * هذه المقالة يكتبها د. محمد طلال بدران – مدير دار الإفتاء والبحوث الإسلامية * عنوان المقالة: “العنف في الداخل الفلسطيني: الجذور التاريخية والواقع الراهن”

الحمد لله وكفى وسلام على عباده الذين اصطفى وبعد:
* تمهيد السلسلة
حين نتحدث عن الداخل الفلسطيني (48) فإننا لا نقف أمام جغرافيا ضيقة فحسب، بل أمام جرح نازف يشق جسد مجتمعنا منذ بداية الألفية الثالثة، فظاهرة العنف والجريمة لم تعد أحداثًا عابرة، ولا حوادث فردية تُطوى مع مرور الوقت، بل تحولت إلى حالة بنيوية تضرب أعماق الأسرة والحي والمدرسة والشارع، حتى صار الفرد منا ينام ويصحو على خبر جريمة قتل أو اعتداء أو إطلاق نار.
هذه الظاهرة لم تنشأ من فراغ، وإنما لها جذور ممتدة، تغذيها عوامل تاريخية واجتماعية وسياسية واقتصادية.
* الجذور التاريخية لظاهرة العنف
منذ عام النكبة 1948م، عاش الفلسطيني في الداخل تحت واقع سياسي مضطرب، فقَد الأرض والبيت، وتعرض لمحاولات الاقتلاع والتهجير، ثم أُخضِع لسياسات التهميش والتمييز العنصري، هذه الظروف خلقت فراغًا عميقًا في بنية المجتمع، إذ جرى تفكيك المرجعيات التقليدية التي كانت تضبط السلوك الاجتماعي وتحد من النزاعات، ومع مرور الوقت، بدأت البنية العائلية والعشائرية تتحول من عنصر ضبط اجتماعي إلى طرف في النزاع نفسه، خاصة مع غياب إطار وطني جامع يلمّ شتات الناس ويوجه طاقتهم نحو البناء لا نحو التناحر.
* الواقع الراهن: من الفردي إلى البنيوي
اليوم لم يعد العنف حادثة فردية، بل صار ظاهرة مجتمعية لها أنماطها الثابتة:
• العنف الأسري والعائلي الذي يفتك بالصلات القرابية ويستنزف طاقات المجتمع.
• الجريمة المنظمة التي تحولت إلى اقتصاد بديل، يستقطب الشباب العاطل عن العمل ويزج بهم في دوامة المخدرات والمتاجرة بالسلاح.
• العنف في المدارس حيث يكبر الجيل الجديد على ثقافة الضرب والتنمّر بدل ثقافة الحوار والإبداع.
هذا كله يجري في ظل تواطؤ واضح من المؤسسة الحاكمة التي لا تُقدِم على خطوات جدية لوقف نزيف الدم، بل كثيرًا ما يُتهم جهاز الشرطة بأنه جزء من المشكلة لا جزء من الحل، عبر تقاعسه عن جمع السلاح وملاحقة المجرمين، او الكشف عن الجرائم، أو عبر تغذية الخلافات الداخلية كي تبقى الجبهة الفلسطينية مشرذمة.
* البعد المجتمعي والديني
من الناحية الشرعية، فإن الدماء معصومة، والاعتداء عليها كبيرة من الكبائر ﴿مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا﴾ (المائدة: 32). ومع ذلك، نرى كيف يُستسهل القتل في مجتمعنا حتى صار أقل خلاف بين شابين أو عشيرتين ينتهي بمأتم وجنازة، هذا الانحراف يضع مسؤولية جسيمة على العلماء والدعاة والمربين، إذ لا يمكن أن تبقى المنابر المختلفة صامتة أمام نزيف الدم، ولا يمكن أن يُترك الشباب نهبًا لثقافة السلاح والانتقام.
* خطورة الظاهرة على المستوى الدولي
ما يحدث في الداخل الفلسطيني لا يقتصر على أزمة محلية، بل يظهر في تقارير دولية تُظهر معدلات مرتفعة من العنف مقارنة بالمجتمعات الأخرى، هذه الحقيقة تزيد من الحاجة إلى وقفة جماعية عاجلة لمعالجة الأسباب الجذرية، قبل أن تتحول هذه الظاهرة إلى وصمة اجتماعية دائمة تؤثر على مستقبل الأجيال، وتؤدي إلى هجرة طوعية للسكان الاصليين للبلاد الى خارج البلاد باحثين عن الامن والامان لأسرهم.
* نحو وعي جديد
افتتاح هذه السلسلة يأتي من قناعة أن معالجة العنف لا تتم بخطاب وعظي مؤقت، ولا بجهود فردية متفرقة، بل تحتاج إلى مشروع مجتمعي متكامل، يشارك فيه الجميع: البيت، المدرسة، المسجد، الإعلام، المؤسسات الأهلية والبلدية، والأطر الوطنية، ما لم يتحول الوعي الجمعي من حالة التذمر إلى حالة المبادرة، سيظل الدم ينزف، وستظل الجريمة تتغذى على صمتنا.
* دعوة القارئ للمشاركة
لكل قارئ دور يلعبه، ولو بخطوة بسيطة في بيئته، كالتأثير على أبنائه، أو المشاركة في نشاط مدرسي أو مجتمعي، أو حتى نشر الوعي بين الجيران والأصدقاء. فكل جهد ولو بدا صغيرًا، هو جزء من معركة أكبر لإعادة السلام والأمان إلى مجتمعنا.
* خاتمة الافتتاحية
هذه المقالة تمثل مدخلًا لسلسلة نطرح فيها أبعاد الظاهرة من مختلف جوانبها، لنكشف الجذور ونشخص الواقع ونقترح الحلول، هدفنا أن يكون هذا الجهد خطوة على طريق طويل نحو استعادة أمن مجتمعنا ووحدته، فالعنف ليس قدرًا محتومًا، بل نتيجة لسياسات وأوضاع يمكن تغييرها إذا صدقت العزائم وتضافرت الجهود… ولكم مني التحية والسلام
* عنوان مقالة الغد: ” نزيف السنوات: حصاد الارواح في الداخل الفلسطيني جراء العنف المجتمعي منذ عام 2000 الى عام 2024 م”
* اللهم الطُف بعبادك المؤمنين المستضعفين يا رب العالمين، اللهمّ فرجًا قريبًا من عندك يا الله
* مقالة رقم: (2074)
* 13 . ربيع أوّل .1447 هـ
* الجمعة. 05.09.2025 م
باحترام: د. محمد طلال بدران (أبو صهيب)
*******
* رؤية
* نزيف الأعوام
سلسلة: “نزيف الداخل الفلسطيني: نحو مشروع مجتمعي لكبح العنف والجريمة”
* هذه المقالة يكتبها د. محمد طلال بدران – مدير دار الإفتاء والبحوث الإسلامية
* عنوان المقالة: “نزيف السنوات: حصاد الارواح في الداخل الفلسطيني جراء العنف المجتمعي منذ عام 2000 الى عام 2024 م”
الحمد لله وكفى وسلام على عباده الذين اصطفى وبعد:
منذ مطلع الألفية الثالثة والمجتمع العربي في الداخل الفلسطيني ينزف دمًا، جراء موجات متصاعدة من العنف والجريمة المنظَّمة، حتى بات الموت اليومي مشهدًا مألوفًا، بينما تغيب الحلول الجذرية وتتفاقم أسباب الأزمة. لم يعد الحديث عن «حالات فردية» ممكنًا، بل أصبحنا أمام ظاهرة متواصلة تُهدّد حاضر المجتمع ومستقبله، وتفتح الباب أمام سؤال خطير: إلى أين نحن ذاهبون إن بقيت الأوضاع على ما هي عليه؟
* حصيلة الأرواح بين 2000 و2024
تُشير تقديرات متقاطعة إلى أنّ أكثر من ألفي إنسان فقدوا حياتهم بفعل العنف منذ عام 2000م وحتى العام 2024م، في حصيلة مرعبة تكشف حجم الجرح النازف. ومع غياب إحصاءات دقيقة للسنوات الأولى من الألفية، فإنّ ما توفر من بيانات في العقد الأخير يبيّن مسارًا أكثر خطورة:
• عام 2022: سُجّل مقتل 109 ضحايا في المجتمع العربي نتيجة العنف، بحسب معطيات Taub Center.
• عام 2023: ارتفع العدد إلى 244 ضحية، وهو العام الأكثر دمويّة منذ بدء التوثيق المنهجي. وتشير تقارير إلى أنّ ما يقارب 88% من الجرائم استُخدم فيها سلاح ناري غير مرخّص، كما أنّ نسبة الجرائم التي حُلّت لم تتجاوز 11% فقط.
• عام 2024: رغم بعض الجهود، بقي العدد صادمًا، إذ قُتل ما بين 220 و230 شخصًا، بحسب تقارير Taub Center ووسائل إعلام عبرية موثوقة.
هذه الأرقام تكشف عن تضاعف حاد خلال فترة وجيزة، ما يدلّ على تفاقم الأزمة البُنيوية وغياب الردع، ويؤكّد أنّ الحديث عن «ظواهر عابرة» لم يعد مقبولًا.
* ملامح الأزمة
• تقصير في التحقيقات: انخفاض نسب حلّ ملفات القتل يعمّق انعدام الثقة بين المجتمع والشرطة، ويمنح المجرمين شعورًا بالإفلات من العقاب.
• انتشار السلاح غير المرخّص: آلاف قطع السلاح تتداوَل في الشارع، وتتحوّل إلى أداة قتل متاحة للجميع، بما في ذلك القاصرين.
• استهداف الشباب: معظم الضحايا من الفئة العمرية 18–30 عامًا، ما يعني نزيفًا مباشرًا لطاقات المجتمع المنتجة.
• تأثيرات اجتماعية مدمّرة: الخوف والقلق أصبحا جزءًا من الحياة اليومية، والعائلات باتت تعيش في ظلّ تهديد دائم، مما ولّد شعورًا عامًّا بفقدان الأمان.
* جذور الظاهرة
لا يمكن اختزال أسباب العنف في عامل واحد، بل تتداخل عدة مسارات:
• غياب السياسات الحكومية الرسمية العادلة التي تعالج التمييز البنيوي وتسدّ الفجوات الاجتماعية والاقتصادية، مما يترك المجتمع العربي في هامش الإهمال.
• تراجع سلطة الضبط الاجتماعي أمام تصاعد العصبيات العائلية والعشائرية التي تحلّ نزاعاتها خارج القانون.
• ضعف الدور التربوي والمؤسساتي في بناء ثقافة قرية أو مدينة ترفض العنف وتنبذ السلاح.
• تواطؤ شبكات الإجرام التي وجدت فراغًا أمنيًا استغلته لترسيخ نفوذها وتوسيع تجارتها في المخدرات والسلاح.
• إضعاف القيادة المجتمعية عبر استهداف الرموز وإقصاء الأصوات الإصلاحية، ما زاد من فقدان البوصلة الجمعية.
* نحو مشروع مجتمعي للإنقاذ
إنّ استمرار النزيف يفرض تحركًا عاجلًا، لا يكتفي بتحميل المسؤولية للسلطات الرسمية، بل يُشرك المجتمع نفسه في بناء مشروع مقاوم للعنف، يقوم على عدة مستويات:
• ضغط سياسي وشعبي لإجبار مؤسسات الدولة على أداء مسؤولياتها الأمنية بعدالة ومهنية.
• حملات مدَنية للتوعية بخطورة ثقافة السلاح والانتقام، وتبني خطاب إصلاحي جامع.
• إحياء المرجعية الدينية والاجتماعية لردع الجريمة وتثبيت قيم الإصلاح والصلح العشائري وفق ضوابط شرعية وقانونية.
• برامج شبابية فاعلة تستثمر الطاقات في التعليم والعمل والرياضة، وتفتح أمام الجيل الجديد أبواب الأمل بدلًا من طرق الموت.
• شراكات مجتمعية بين المدارس، المجالس المحلية، والجمعيات الأهلية، لصياغة رؤية استراتيجية طويلة الأمد.
* خاتمة
بين عام 2000 و2024، تحوّلت الجرائم من حوادث متفرقة إلى جرح مفتوح يستنزف مئات الأرواح سنويًا. الأرقام ليست مجرد إحصاءات؛ بل هي وجوه وأسماء وأسر فقدت أبناءها وأحلامها، والواجب اليوم أن يتحوّل الوعي إلى مشروع، والغضب إلى خطة، والصمت إلى صرخة مدوية، حتى لا نظل نحصد الموت عامًا بعد عام، إنّ صرخة الإنقاذ لا بد أن تُسمع، قبل أن يصبح الدم هو اللغة الوحيدة الباقية…ولكم مني التحية والسلام
* عنوان مقالة الغد: ” تفكيك البيئة الحاضنة للجريمة: البطالة، الفقر، غياب الردع، ضعف الخدمات”
* اللهم الطُف بعبادك المؤمنين المستضعفين يا رب العالمين، اللهمّ فرجًا قريبًا من عندك يا الله
* مقالة رقم: (2075)
* 14 . ربيع أوّل .1447 هـ
* السبت. 06.09.2025 م
باحترام: د. محمد طلال بدران (أبو صهيب)
*******
* رؤية
* طوفان الدم
سلسلة: “نزيف الداخل الفلسطيني: نحو مشروع مجتمعي لكبح العنف والجريمة”
* هذه المقالة يكتبها د. محمد طلال بدران – مدير دار الإفتاء والبحوث الإسلامية
* عنوان المقالة: ” تفكيك البيئة الحاضنة للجريمة: البطالة، الفقر، غياب الردع، ضعف الخدمات”
الحمد لله وكفى وسلام على عباده الذين اصطفى وبعد:
* مدخل إلى عمق الأزمة
العنف المستشري في الداخل الفلسطيني ليس مجرد حوادث عابرة أو انفجارات غضب فردية، بل هو انعكاس عميق لبيئة اجتماعية واقتصادية وسياسية مشوهة، تَكاثرت فيها عوامل الهشاشة حتى غدت تربة خصبة للجريمة، والبحث عن الحلول لا يبدأ من تتبّع الجريمة ذاتها، بل من تفكيك تلك البيئة الحاضنة التي تغذيها وتمنحها القدرة على الاستمرار.
* البطالة: وقود اليأس
تشير الإحصاءات إلى أنّ نسب البطالة في الداخل الفلسطيني، خصوصًا بين فئة الشباب، هي الأعلى مقارنة بنظيراتها في المجتمع اليهودي، البطالة ليست مجرد فقدان لفرصة عمل، بل هي انقطاع عن الأمل وإحساس باللاجدوى، الشاب الذي يُحرم من فرصة بناء مستقبله بعرق جبينه، يجد نفسه أمام فراغ قاتل، يفتح أمامه أبواب الانحراف، من الانخراط في عصابات الجريمة إلى الإدمان والبحث عن “مكاسب سريعة” خارج إطار العمل الشريف، حيث أنّ البطالة تحوّل الطاقات الخلّاقة إلى قنابل موقوتة تهدد الاستقرار الأسري والمجتمعي على حد سواء.
* الفقر: تربة الجريمة الخصبة
الفقر لا يقاس فقط بالدخل المحدود، بل بتراكم الحرمان وانسداد الأفق، الأسرة التي تعجز عن توفير أساسيات الحياة، تنشأ فيها أجيال تحمل شعورًا بالنقص والدونية، ما يجعلها أكثر عرضة للابتزاز من قبل شبكات الإجرام التي تتفنن في استغلال الفقراء والمحتاجين. في مثل هذه البيئة، يصبح المال الحرام ملاذًا مغريًا، وتضعف قدرة القيم الأخلاقية والدينية على الصمود أمام ضغط الحاجة، ولذا فمكافحة الفقر ليست رفاهية، بل هي جزء أصيل من مكافحة الجريمة.
* غياب الردع: عندما يفقد القانون هيبته
لا يخفى على أحد أنّ ضعف أداء الشرطة الإسرائيلية في مكافحة الجريمة داخل المجتمع العربي، إن لم يكن تقصيرًا متعمدًا، قد أدى إلى انهيار منظومة الردع، حين تتكرر جرائم القتل والابتزاز وإطلاق النار دون أن يُقدّم المجرمون للعدالة، يفقد الناس ثقتهم بالقانون، وينتشر شعور عام بأنّ السلاح يحكم، لا النظام، ؛-آخر قضية قتل شاب ممن مججد الكروم الليلة حيث طُعن حتى الموت- هذا الغياب الممنهج للردع ساهم في تقوية العصابات، إذ لم تعد ترى أمامها جهازًا قادرًا على كسر شوكتها، فتعاظم نفوذها حتى باتت تتدخل في تفاصيل حياة الناس، من التجارة، الى الخاوة، إلى السياسة المحلية.
* ضعف الخدمات: انسداد الأفق الاجتماعي
الخدمات المجتمعية من تعليم وصحة وإسكان وبنية تحتية، ليست مجرد تسهيلات حياتية، بل هي مظلات حماية من الانزلاق نحو الجريمة، حين يتكدس الطلاب في مدارس بلا موارد، ويعيش الشبان في بلدات تفتقر للمراكز الثقافية والرياضية، وحين تُهمل الأحياء العربية في التخطيط العمراني وتترك لتفاقم الأزمات، يصبح الشارع هو المدرسة الفعلية، ويغدو الانحراف أقصر الطرق للبحث عن “هوية” أو “موقع” في مجتمع مُهمل. ضعف الخدمات، بهذا المعنى، ليس إهمالًا عابرًا، بل هو سياسة تُنتج بيئة طاردة لأي انتماء إيجابي.
* نحو رؤية شاملة للحل
تفكيك البيئة الحاضنة للجريمة يتطلب مشروعًا مجتمعيًا متكاملًا، يدمج بين الوعي الشعبي والحراك السياسي والضغط المدني، وصولًا إلى بناء مؤسسات أهلية قادرة على احتضان الشباب وتوجيه طاقاتهم. معالجة البطالة لا تتم إلا عبر فتح أسواق عمل عادلة، وتمكين اقتصادي حقيقي، ومكافحة الفقر تتطلب برامج دعم اجتماعي منصفة، تحفظ كرامة الإنسان، وإعادة الاعتبار للردع تمرّ عبر نضال سياسي من أجل مساواة حقيقية في الأمن وتطبيق القانون، أما سدّ فراغ الخدمات، فيبدأ من مشروع تربوي وثقافي متجدد، يُعيد الثقة للشباب بأنّ في مجتمعاتهم بدائل مشرقة عن العنف.
* خاتمة: لا جريمة بلا بيئة حاضنة
إنّ الجريمة لا تنمو في فراغ، بل تحتاج دائمًا إلى تربة تسقيها وتغذيها، والداخل الفلسطيني اليوم يقف أمام مسؤولية كبرى: إما أن يُفكك تلك التربة الموبوءة بالبطالة والفقر والإهمال وغياب الردع، أو أن يستسلم لمزيد من النزيف، المعركة الحقيقية ليست فقط ضد المجرم، بل ضد كل الظروف التي صنعت منه مجرمًا. وما لم ندرك هذه الحقيقة، سيظل الدم العربي في الداخل ينزف، ويظل مجتمعنا ينادي بخطة إنقاذ شاملة قبل أن يفوت الأوان… ولكم مني التحية والسلام
* عنوان مقالة الغد: “دور الأسرة في الوقاية المبكرة: كيف نحمي أبناءنا قبل أن يقتربوا من دوائر العنف؟”
* اللهم الطُف بعبادك المؤمنين المستضعفين يا رب العالمين، اللهمّ فرجًا قريبًا من عندك يا الله
* مقالة رقم: (2076)
* 15 . ربيع أوّل .1447 هـ
* الأحد. 07.09.2025 م
باحترام: د. محمد طلال بدران (أبو صهيب)
*******
* رؤية
* الوقاية الأسرية
سلسلة: “نزيف الداخل الفلسطيني: نحو مشروع مجتمعي لكبح العنف والجريمة”
* هذه المقالة يكتبها د. محمد طلال بدران – مدير دار الإفتاء والبحوث الإسلامية
* عنوان المقالة: “دور الأسرة في الوقاية المبكرة: كيف نحمي أبناءنا قبل أن يقتربوا من دوائر العنف؟”
الحمد لله وكفى وسلام على عباده الذين اصطفى وبعد:
1. الأسرة: الخط الأول في مواجهة العنف
الأسرة هي البيئة الأولى التي يتشكل فيها سلوك الفرد وشخصيته. يقول النبي ﷺ: “كلكم راعٍ وكلكم مسؤول عن رعيته” (رواه البخاري ومسلم)، فكما يراعي الراعي قطيعه، يجب على الأسرة أن تراعي أبناءها، تراقب سلوكهم، وتوجههم قبل أن يغرقوا في تيارات العنف. في الداخل الفلسطيني، نلاحظ أن الانشغال الدائم بالعمل أو الظروف الاقتصادية الصعبة قد يبعد الوالدين عن متابعة أبنائهم بشكل فعّال، ما يفتح المجال أمام المؤثرات السلبية في الشارع أو على وسائل التواصل الاجتماعي، التي أصبحت أدوات نشر سلوكيات عنيفة أو خطرة أحيانًا.
2. التربية الدينية والقيَمية كدرع وقائي
الدراسات النفسية والاجتماعية تؤكد أن التربية المبكرة على القيم والأخلاق تقلل من الميل نحو العنف، إن غرس قيم الصدق، الاحترام، والتعاون، وربطها بالمسؤولية الفردية، يعطي الطفل أساسًا قويًا يواجه به الضغوط السلبية. القرآن الكريم يحث على غرس القيم منذ الصغر: ﴿ووصينا الذين أوتوا الكتاب من قبلكم وإياكم أن اتقوا الله﴾ (النساء:131)، ما يؤكد دور الأسرة في زرع التوجيه السليم. وعندما تُقدّم برامج توعية أسرية لا شك عندها أن الأطفال الذين يتلقون تعليمًا قيمياً ودينياً مبكراً سوف يكونون أقل عرضة للانخراط في النزاعات المحلية.
3. التواصل الأسري: صلة القلب قبل صلة اليد
الاستماع الحقيقي لأبناءنا، وفهم مشاعرهم، والانتباه لما يعانيه المراهقون من ضغوط هو عنصر حاسم للوقاية المبكرة. الدراسات الحديثة تؤكد أن العلاقة الحميمية بين الوالدين والأبناء تقلل من فرص انخراطهم في سلوكيات عنيفة بنسبة تصل إلى 60%، فعندما يشعر الولد أن لديه من يسمعه ويفهمه، تقل فرص انجرافه وراء مجموعات الشارع أو الصداقات المؤثرة سلبًا. فالدعم النفسي والتوجيه الدائم يضمنان شعوره بالأمان والاحتواء، ويزرعان في قلبه قيم الانتماء والمسؤولية.
4. المراقبة الذكية للتأثيرات الخارجية
البيئة الاجتماعية والإعلامية المحيطة بالأبناء تحمل خطرًا حقيقيًا إذا لم يتم توجيههم بحكمة. الأسرة الواعية ترصد التوجهات الخطرة، تضع حدودًا واضحة لاستخدام الوسائل الرقمية، وتختار محتوى مناسبًا، كما تشجع الأنشطة الهادفة مثل الرياضة، الفنون، والمشاركة في الأعمال التطوعية، يقول علماء التربية: “لا يمكن منع الطفل من التعرض للخطر، لكن يمكن تقوية مناعته النفسية لتفادي الانزلاق في سلوكياته”. وعليه، فإن إشراك الأبناء في أنشطة جماعية مفيدة يُعَد أحد أهم أساليب الوقاية من الانحراف والسلوكيات العدوانية.
5. الشراكة المجتمعية: الأسرة ليست وحدها
الوقاية المبكرة لا تقع على عاتق الأسرة فقط؛ المدرسة، المسجد، والجمعيات الشبابية، جميعها مكملة لدور الأسرة. فإقامة برامج وأنشطة مثل الدعم النفسي والتربوي الموجهة للأسر في الداخل الفلسطيني من خلال وُرش العمل، والندوات التربوية، والتوجيه الفردي، لا شك أن ذلك سوف يُغيّر المعادلة ويصبح المجتمع كله درعًا داعمًا للأسرة، ويعزز من قدراتها على حماية أبنائها قبل أن يقتربوا من دوائر العنف.
* الخلاصة: الاستباق قبل الانحدار
الوقاية المبكرة تبدأ بالأسرة الواعية، والتربية القيَمية، والتواصل الصادق، والمراقبة الحكيمة، والشراكة المجتمعية. حماية أبنائنا من دوائر العنف تبدأ قبل أن يقِفوا على مفترق طرق خطير، فكل لحظة اهتمام ورعاية مبكرة هي درع يمنع النزيف ويزرع في نفوسهم أمنًا وسلامًا، ويحولهم من ضحايا محتملين إلى صُنّاع مجتمع قوي وسليم. إن الاستثمار في الأسرة كخط وقائي أول هو استثمار في مستقبل الأجيال ومفتاح لإيقاف نزيف الداخل الفلسطيني… ولكم مني التحية والسلام
* عنوان مقالة الغد: “المسجد والمدرسة والمؤسسات الاجتماعية كحواضن أمان: مناهج وقيم وأساليب احتواء.
* اللهم الطُف بعبادك المؤمنين المستضعفين يا رب العالمين، اللهمّ فرجًا قريبًا من عندك يا الله
* مقالة رقم: (2077)
* 16 . ربيع أوّل .1447 هـ
* الأثنين. 08.09.2025 م
باحترام: د. محمد طلال بدران (أبو صهيب)
*********
* رؤية
* حواضنُ الأمان
سلسلة: “نزيف الداخل الفلسطيني: نحو مشروع مجتمعي لكبح العنف والجريمة”
* هذه المقالة يكتبها د. محمد طلال بدران – مدير دار الإفتاء والبحوث الإسلامية
* عنوان المقالة: “المسجد والمدرسة والمؤسسات الاجتماعية كحواضن أمان: مناهج وقيم وأساليب احتواء”
الحمد لله وكفى وسلام على عباده الذين اصطفى وبعد:
* المسجد: قلب المجتمع وروح التوجيه
لم يكن المسجد يومًا مكانًا للصلاة فحسب، بل كان في التجربة الإسلامية الأولى مؤسسة جامعة، تُعالج قضايا الناس، وتغرس فيهم القيم، وتُوجّه سلوكهم. قال تعالى: ﴿فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ﴾ (النور: 36). إعادة المسجد إلى مكانته الأصيلة في الداخل الفلسطيني اليوم ليست رفاهية فكرية، بل ضرورة اجتماعية لمواجهة العنف المستشري. فإذا صار المسجد منبرًا لحوار الأجيال، ومكانًا لغرس ثقافة الاحترام، ومصدرًا لتصحيح الانحرافات السلوكية، تحوّل إلى حاضنة أمان حقيقية، تعيد الشباب إلى دائرة الانتماء، وتعيد صياغة قيم المجتمع بما يتوافق مع الهوية والوعي الوطني.
* المدرسة: مصنع العقول وغرس القيم
المدرسة ليست مجرد مؤسسة تعليمية، بل هي بيئة تُصاغ فيها شخصية الجيل القادم. فإذا اكتفت بتلقين المناهج الجافة، فلن تنجح في احتواء الشباب، بل قد تُخلي الساحة أمام تيارات العنف والانحراف.
إن المدرسة مطالبة اليوم بأن تدمج التربية بالقيم مع التعليم، وأن تُنشئ طلابًا يعرفون حقوقهم وواجباتهم، ويملكون مهارات الحوار البنّاء، ويستطيعون التفريق بين النقد البنّاء والتصرفات الهدامة. يقول ﷺ: “إنما بُعثت لأتمم صالح الأخلاق” (رواه أحمد). فالمناهج الدراسية يجب أن تجعل الأخلاق محورًا، وأن تُدمج ضمن الأنشطة اليومية للطالب، سواء من خلال المناهج الصفية أو النشاطات اللامنهجية، بحيث يصبح التعليم وسيلة لغرس شخصية متكاملة لا مجرد تحصيل معلومات.
* المؤسسات الاجتماعية: جسور الثقة والاحتواء
حين يغيب الإطار المؤسسي الذي يحتوي الشباب، يضيعون بين فراغ قاتل وإغراءات الشارع. لذلك فالمؤسسات الاجتماعية – الجمعيات، النوادي، المراكز الثقافية والرياضية – هي صمام أمان حقيقي، إذ تمنح الشباب فرصة للتعبير عن طاقاتهم ضمن فضاء مشروع ومنضبط.
توجيه الدعم لهذه المؤسسات، وربطها بالمسجد والمدرسة، يُشكّل شبكة أمان متكاملة. فالشاب الذي يجد نشاطًا ترفيهيًا في النادي، وإسنادًا قيميًا في المسجد، وتربية تعليمية في المدرسة، لن يسقط ضحية للفراغ أو للجريمة المنظمة. كما أن إشراك الأسرة في هذه المؤسسات، ودعم دور الأهل في متابعة الأبناء، يعزز قدرة المجتمع على حماية شبابه من الانحراف.
* مناهج عملية وأساليب احتواء
الخطاب التربوي لا يكتمل بالشعارات، بل يحتاج إلى أساليب عملية وواضحة:
1- إحياء القدوة: تقديم شخصيات ناجحة من واقع المجتمع تكون قدوة حقيقية للشباب، ليقتدي بها في سلوكياته وأخلاقه.
2- المشاركة الفاعلة: إشراك الشباب في صنع القرار داخل مؤسساتهم ليشعروا بالانتماء والمسؤولية، ويكون لهم دور إيجابي في المجتمع.
3- المتابعة والدعم الفردي: برامج متابعة للشباب الذين يواجهون صعوبات سلوكية أو تعليمية، لتقديم الدعم اللازم في الوقت المناسب.
4- التكامل المؤسسي: أن تعمل كل مؤسسة في انسجام وتنسيق، لا أن تكون جزرًا معزولة، لضمان أن كل نشاط أو مبادرة تضيف قيمة حقيقية للشاب والمجتمع.
* نحو رؤية مجتمعية متكاملة
لن ينجح مشروع مواجهة العنف في الداخل الفلسطيني إلا إذا وُجدت رؤية شاملة تُعيد الاعتبار للمؤسسات التربوية والاجتماعية. فالمسجد وحده لا يكفي، والمدرسة وحدها لا تكفي، والمؤسسة الاجتماعية وحدها لا تكفي. التكامل هو الطريق.
إننا أمام نزيف يلتهم أبناءنا يومًا بعد يوم وعامًا بعد عام، ولن يوقفه إلا مشروع يضع النقاط على الحروف: إعادة بناء الإنسان الفلسطيني عبر قيمه، ومؤسساته، ومناهجه، بروح من الإيمان والعمل الجماعي. فالمجتمع الذي يجعل المسجد قلبه، والمدرسة عقله، والمؤسسة الاجتماعية ذراعه، هو مجتمع قادر على أن يحمي أبناءه، ويصنع لهم مستقبلًا آمنًا ومستدامًا، يحد من العنف ويعزز الانتماء، ويؤكد أن التربية الحقيقية هي غرس الروح قبل المعلومات.
وختام المقالة: الاستثمار في الإنسان مستقبل المجتمع
إن الاستثمار في الإنسان، عبر المسجد والمدرسة والمؤسسات الاجتماعية، هو الضمان الحقيقي لمستقبل آمن ومستقر. فالشباب الذين يشعرون بالانتماء، ويجدون قيمة لأرواحهم وأفكارهم، يكونون قوة بناء لا عصابات هدم. وهكذا يتحول المجتمع من دائرة نزيف مستمرة إلى حاضنة أمل، حيث يغرس كل فرد قيم الأخلاق والانتماء، وتصبح المؤسسات الحقيقية رافدًا للسلام والأمان، بعيدًا عن الفراغ والعنف. الاستثمار في الإنسان ليس رفاهية، بل استراتيجية بقاء ونجاح لكل مجتمع يطمح للحياة الكريمة… ولكم مني التحية والسلام
* عنوان مقالة الغد: ” السلطة والشرطة بين التقصير والتواطؤ: قراءة نقدية واقعية دون شعارات. ”
* اللهم الطُف بعبادك المؤمنين المستضعفين يا رب العالمين، اللهمّ فرجًا قريبًا من عندك يا الله
* مقالة رقم: (2078)
* 17 . ربيع أوّل .1447 هـ
* الثلاثاء. 09.09.2025 م
باحترام: د. محمد طلال بدران (أبو صهيب)
*********
* رؤية
* تقصير وتوطؤ
سلسلة: “نزيف الداخل الفلسطيني: نحو مشروع مجتمعي لكبح العنف والجريمة”
* هذه المقالة يكتبها د. محمد طلال بدران – مدير دار الإفتاء والبحوث الإسلامية
* عنوان المقالة: “السلطة والشرطة بين التقصير والتواطؤ: قراءة نقدية واقعية دون شعارات”
الحمد لله وكفى وسلام على عباده الذين اصطفى وبعد:
* تمهيد
العنف المستشري في الداخل الفلسطيني لم يعد ظاهرة عابرة يمكن تفسيرها ببعض الخلافات الفردية أو النزاعات العائلية، بل صار مرضًا اجتماعيًا متجذرًا، يهدد أمن الأفراد واستقرار المجتمع. ومع تصاعد الجريمة، تتجه الأنظار دومًا إلى مؤسستين أساسيتين: السلطة السياسية والشرطة، باعتبارهما الجهتين المسؤولتين عن فرض النظام وحماية المواطنين. لكن السؤال الذي يفرض نفسه: هل عجزت هذه المؤسسات فعلًا، أم أن وراء المشهد أبعادًا أعمق من مجرد التقصير؟
* تقصير أمني متكرر
لا يختلف اثنان على أن الشرطة تمتلك من الوسائل التقنية والقدرات الاستخبارية ما يجعلها قادرة على ضبط معظم أشكال الجريمة. لكن الواقع يكشف هوة واسعة بين الإمكانيات المتاحة والنتائج على الأرض. تقارير رسمية صادرة عن الكنيست الإسرائيلي نفسها تؤكد أنّ معدلات الكشف عن جرائم القتل في المجتمع العربي أقل بكثير من نظيرتها في المجتمع اليهودي، حيث تصل نسب الحل إلى أكثر من 70% في الوسط اليهودي، بينما لا تتجاوز 20% في الوسط العربي. هذا الفارق يشي بأن القضية ليست مجرد نقص إمكانيات، بل وجود سياسة مزدوجة في التعامل مع دم المواطن العربي.
* التواطؤ الممنهج
الأدهى من التقصير هو التواطؤ الذي بات يتحدث عنه الباحثون والسياسيون على حد سواء. حين تتحول مناطق بأكملها إلى ساحة مفتوحة لعصابات الإجرام، وحين يُسمح بتداول السلاح على نطاق واسع دون رادع، يترسخ الاعتقاد بأن هناك من يريد لهذا الواقع أن يستمر. تقارير صادرة عن “مراقب الدولة” الإسرائيلي كشفت أنّ كميات ضخمة من السلاح دخلت إلى المجتمع العربي من خلال قنوات يعرفها الجهاز الأمني، بل وتحت أعينه. هذا لا يفسّر إلا بوجود إرادة ضمنية في إبقاء المجتمع الفلسطيني رهينة العنف الداخلي.
* السلطة بين العجز والتذرّع
أما على مستوى السلطة السياسية، فإنها غالبًا ما تتذرع بأن العنف “قضية اجتماعية داخلية” أو نتيجة “ثقافة عشائرية”، محاولةً التنصل من مسؤوليتها المباشرة. غير أن الواقع يقول إن سياسات التهميش الممنهج، وغياب خطط التنمية الحقيقية، وترك الشباب فريسة للبطالة والفقر، كل ذلك يصب في تغذية دائرة العنف. إن تحميل الضحية مسؤولية دمها ليس سوى شكل آخر من أشكال التواطؤ.
* قراءة نقدية دون شعارات
من السهل رفع الشعارات الرنانة والدعوة إلى الوحدة الداخلية، لكن النقد الحقيقي يقتضي تسمية الأمور بأسمائها: الشرطة متقاعسة عمدًا، والسلطة السياسية متواطئة بشكل غير مباشر. والنتيجة: نزيف يومي للأرواح، وتفكك في البنية الاجتماعية، وخلق بيئة مثالية لإضعاف المجتمع الفلسطيني في الداخل وإشغاله بنفسه بعيدًا عن قضاياه الوطنية الكبرى.
* نحو رؤية بديلة
المطلوب اليوم ليس مجرد احتجاجات موسمية، بل مشروع وطني واجتماعي ضاغط يضع قضية العنف على رأس الأولويات، ويُحمّل مؤسسات الدولة المسؤولية الكاملة. كما ينبغي بناء شبكات حماية أهلية، وتحصين المجتمع وخصوصًا الشباب من الاستقطاب نحو عالم الإجرام. قال الله تعالى: ﴿وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ﴾ (آل عمران: 139). فالإيمان هنا لا يُختزل في الشعائر فقط، بل يتجلى في الوعي والقدرة على مواجهة التحديات بصلابة وإصرار.
خاتمة
إن الحديث عن العنف في الداخل الفلسطيني يظل ناقصًا ما لم نتوقف عند مسؤولية السلطة والشرطة بشكل مباشر. فإما أن تقوم هذه المؤسسات بدورها الحقيقي في حماية المواطن العربي، وإما أن يبقى النزيف مستمرًا، بما يخدم مشاريع الإضعاف والتفكيك. النقد هنا ليس ترفًا فكريًا، بل ضرورة وجودية: فالمجتمع الذي ينزف أبناءه يوميًا، لا يمكن أن ينهض أو يواجه تحدياته الكبرى دون مواجهة جذرية لهذه الحقيقة… ولكم مني التحية والسلام
* عنوان مقالة الغد: “الإعلام ومنصات التواصل: هل تغذي العنف أم تعالجه؟ وكيف نصنع إعلامًا مسؤولًا؟”
* اللهم الطُف بعبادك المؤمنين المستضعفين يا رب العالمين، اللهمّ فرجًا قريبًا من عندك يا الله
* مقالة رقم: (2079)
* 18 . ربيع أوّل .1447 هـ
* الأربعاء. 10.09.2025 م
باحترام: د. محمد طلال بدران (أبو صهيب)
********
رؤية
* العنف والإعلام
سلسلة: “نزيف الداخل الفلسطيني: نحو مشروع مجتمعي لكبح العنف والجريمة”
* هذه المقالة يكتبها د. محمد طلال بدران – مدير دار الإفتاء والبحوث الإسلامية
* عنوان المقالة: “الإعلام ومنصات التواصل: هل تغذي العنف أم تعالجه؟ وكيف نصنع إعلامًا مسؤولًا؟”
الحمد لله وكفى وسلام على عباده الذين اصطفى وبعد:
* مدخل ضروري
لا يمكن لأي باحث في أحوال الداخل الفلسطيني أن يغضّ الطرف عن دور الإعلام ومنصات التواصل الاجتماعي في تكوين الوعي الجمعي وتوجيه الرأي العام. لقد تحولت هذه الوسائط من مجرد أدوات نقل خبر أو تداول صورة، إلى فضاءات تصوغ السلوك، وتعيد تشكيل أنماط التفكير، وتؤثر مباشرة في مواقف الأفراد والجماعات. وهنا يطرح السؤال المُلِح: هل هذه المنصات أسهمت في تغذية العنف المستشري، أم يمكن أن تتحول إلى منصات للتهدئة والمعالجة؟
* الإعلام كأداة لتأجيج العنف
تشير دراسات حديثة في علم الاجتماع الإعلامي إلى أن التغطية المكثفة لأحداث العنف، مع إعادة بث مشاهد الدماء والجنازات والتصريحات المشتعلة، تؤدي إلى ما يُعرف بـ”التطبيع مع العنف”، أي جعل العنف مألوفًا في الوعي الجمعي، مما يخفف من بشاعته في النفوس. يقول النبي ﷺ: ﴿مَنْ سَنَّ سُنَّةً سَيِّئَةً كان عليه وِزْرُها ووِزْرُ مَنْ عَمِلَ بها﴾ (رواه مسلم)، وهو حديث يرشدنا إلى خطورة نشر النموذج السيئ وتعميمه.
وعندما تنشغل بعض المنصات بتضخيم “بطولات وهمية” للقتلة والمجرمين؛ – أبو فلان وأبو علّان، وفلان وعلّان وَوو- فإنها تسهم من حيث تدري أو لا تدري في خلق قدوة مريضة لدى بعض الشباب، الذي يبحث عن إثبات ذاته بأي وسيلة.
* منصات التواصل.. ساحة بلا ضوابط
وسائل التواصل الاجتماعي – بخوارزمياتها المصممة على جذب الانتباه- تفتح الباب على مصراعيه أمام خطاب الكراهية، والتشهير، والتحريض. في لحظة غضب، قد يُكتب منشور يحرض على عائلة أو حيّ بأكمله، فيُشعل فتنة لا تخمد بسهولة. وبدل أن تكون هذه المنصات فضاءً للتعبير البنّاء، تحولت أحيانًا إلى ساحة مكشوفة لنشر الخصومات العائلية والاتهامات المتبادلة.
ولذلك حذّر القرآن الكريم من خطورة تداول الأخبار بلا تحقق: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا﴾ (الحجرات: 6)، وهي قاعدة ذهبية كان يمكن أن تكون سياجًا واقيًا لو التزم بها الإعلاميون ورواد المنصات.
* الإعلام كأداة للتهدئة والمعالجة
رغم هذا الواقع المظلم، يبقى الإعلام في جوهره سلاحًا ذا حدين. فكما يمكن أن يزرع بذور الفتنة، يمكن أن يغرس قيم الإصلاح والتسامح. لدينا نماذج مشرقة لتغطيات إعلامية مسؤولة ركّزت على قصص العفو والتسامح بين العائلات، وقدمت المبادرات الشبابية ضد العنف بوصفها بطولات حقيقية. الإعلام الذي يسلط الضوء على مبادرات الإصلاح، وعلى البرامج التربوية، وعلى قصص النجاح في ميادين العلم والعمل، يسهم في إعادة تعريف “البطولة” في وعي الشباب.
* نحو إعلام مسؤول
إن المطلوب اليوم ليس مجرد “نقد الإعلام”، بل صياغة مشروع إعلامي مجتمعي يضع خطوطًا حمراء أمام الترويج للعنف. يمكن تحديد معالم هذا المشروع عبر:
أ- ميثاق شرف إعلامي تتبناه المؤسسات الصحفية والمحطات المحلية، يتضمن التزامًا بعدم الترويج لخطاب العنف أو المبالغة في التغطيات الدموية.
ب- إنتاج محتوى بديل يستثمر قوة الصورة والفيديو في بث رسائل إيجابية، وتقديم قدوات ملهمة من داخل المجتمع.
ج- تأهيل الإعلاميين والشباب الناشطين عبر ورشات تدريبية تدمج بين المهنية الإعلامية والقيم الأخلاقية.
د- رقابة مجتمعية واعية حيث يتحمل الجمهور مسؤوليته في رفض ومقاطعة الصفحات والمواقع التي تقتات على الدماء.
* خاتمة
إن الإعلام في الداخل الفلسطيني يقف اليوم على مفترق طرق: إما أن يظل رهينة الإثارة والتحريض، فيغذي النزيف المجتمعي، وإما أن ينهض برسالته الأخلاقية والوطنية في بناء وعي سليم، يوازن بين نقل الحقيقة وبين حماية المجتمع من التفكك. إن صناعة إعلام مسؤول ليست ترفًا، بل ضرورة وجودية، لأن الإعلام ليس مجرد مرآة للواقع، بل هو صانع للواقع ذاته… ولكم مني التحية والسلام
* عنوان مقالة الغد: “القيادات الدينية والمجتمعية: خطاب يعالج جذور العنف بدل الاكتفاء بالشجب”
* اللهم الطُف بعبادك المؤمنين المستضعفين يا رب العالمين، اللهمّ فرجًا قريبًا من عندك يا الله
* مقالة رقم: (2080)
* 19 . ربيع أوّل .1447 هـ
* الخميس. 11.09.2025م
باحترام: د. محمد طلال بدران (أبو صهيب)
*******

