مقالات

تهاليل الشرق لمارسيل خليفة: سيرة موسيقية وهوية فلسفية [في حوار مع “كارمينا بورانا” لكارل أورف]

بقلم: د. وسام جبران

حين أطلّ مارسيل خليفة على جمهوره بأوركسترا كاملة وكورال ضخم في عمله “تهاليل الشرق”، لم يكن مجرّد موسيقي يجرّب مزج آلات شرقية وغربية، بل بدا كمن يكتب سيرةً موسيقية جديدة للشرق، سيرةً تمزج ذاكرة الطفولة مع الحاضر العالمي، وتحوّل الموال والنُّواح والطّرب إلى مادة سيمفونية معاصرة. هذا المؤلَّف يتيح لنا النظر في عمق المشروع الفني–الفلسفي الذي انخرط فيه خليفة منذ بداياته: كيف يمكن للموسيقى أن تحافظ على جذورها، وأن تتجاوزها في آنٍ واحد؟ وكيف يمكن للشرق أن يتكلّم لغةً عالمية دون أن يفقد نبرته الخاصة؟ في هذا السياق، تصبح المقارنة مع Carmina Burana (1935–1936) لكارل أورف مشروعة ومثيرة: عمل كورالي–أوركسترالي غربي شهير، يحتفي بقدر الإنسان وملذاته وهشاشته، يقف أمام عمل شرقي–معاصر يحتفي بالهوية والذاكرة والانتماء. هذان العملان، رغم اختلاف الزمن والسياق، يلتقيان في الرغبة في صناعة لحظة موسيقية جماعية ضخمة، ذات أثر احتفالي–طقسي، لكنهما يفترقان في مضمون التجربة ومعناها الفلسفي.
.
■ السياق التاريخي والفني
.
«تهاليل الشرق» وُلِد في زمن عربي مطبوع بالاضطراب السياسي، بالبحث عن معنى الهوية، وبالانفتاح القلق على العالم. مارسيل خليفة، الذي ارتبط اسمه طويلاً بالأغنية السياسية الفلسطينية والعربية، انتقل هنا إلى مستوى مختلف: لم يعد صوت العود وحده ولا الغناء المنفرد كافيًا، بل احتاج إلى أوركسترا كاملة، كورال ضخم، وإلى مساحة قادرة على استيعاب تعددية الأصوات الشرقية. أراد أن يعيد صياغة الشرق، لا كتاريخٍ متحفّي أو فولكلور، بل كحضورٍ حيّ. هكذا قدّم العمل بوصفه «سيرة موسيقية»، أي نصًّا يتذكّر وينمو، يستدعي طفولة الطّرب والموّال والنُّواح، لكنه لا يتوقف عندها، بل يضعها داخل أفق جديد.
.
أما Carmina Burana فقد كُتبت في ألمانيا النازية، في ثلاثينيات القرن العشرين، لكنها لم تكن عملًا دعائيًا، بل مشروعًا موسيقيًا جماليًا–دراميًا يستند إلى نصوص شعرية من القرون الوسطى (باللاتينية والألمانية القديمة). أورف التقط تلك القصائد التي تتغنى بالقدر، الخمر، الحب، الطبيعة، وحوّلها إلى مشهد موسيقي أوركسترالي ضخم. افتتحت المقطوعة بواحدة من أشهر مقاطع القرن العشرين، «O Fortuna»، التي عادت لتغلقها في النهاية، في صياغة دائرية تؤكد خضوع الإنسان لرحى الزّمن والقدر.
.
اللقاء بين العملين يكمن في هذا البعد الاحتفالي الجماعي، وفي استحضار نصوص أو ألحان من الماضي (تراث شعري أو موسيقي)، ووضعها في قوالب أوركسترالية جديدة. لكن في حين يذهب أورف إلى الماضي الأوروبي ليعبر عن الإنسان في مواجهة القدر والطبيعة، يذهب خليفة إلى الماضي الشرقي ليؤسس هويةً جماعية جديدة، هوية تقاوم النسيان وتطالب بالاعتراف.
.
■ البنية الموسيقية: بين السّرد الدراميّ واللّوحة الصوتيّة

Carmina Burana منظمة في بنية درامية واضحة: افتتاحية وخاتمة تكرران «O Fortuna»، وبينهما أقسام متعددة تدور حول مواضيع مثل الربيع، المائدة، الخمر، الحب. الكورال يلعب دور الراوي الجماعي، بينما الأصوات المنفردة تبرز شخصيات أو مواقف فردية. هناك إذن حركة واضحة: من رهبة القدر إلى نشوة الطبيعة، ومن بهجة الخمر إلى حرارة الحب، ثم عودة إلى القدر. العمل دائري، نصّي، يقدّم مشاهد متعاقبة، أقرب إلى كانتاتا أو مسرح موسيقي بلا تمثيل فعلي.
أما «تهاليل الشرق» فلا تقوم على نصّ شعري محدّد، بل على شبكة من الألحان والتراثات. البناء هنا أقرب إلى لوحة صوتية شاسعة، تُجمع فيها عناصر متفرقة لتشكيل هوية واحدة. ليست هناك دراما سردية بقدر ما هناك استدعاء وصهر. المقام الشرقي، الإيقاع الشّعبي، الطابع الطربيّ، كلها تتحول إلى عناصر ضمن نسيج أوركسترالي. هنا يصبح الكورال أداة للتعبير الجماعي لا بوصفه راويًا لنصٍّ شعريّ، بل باعتباره صدى لروح جماعية. إذا كانت Carmina Burana تُسرد أحداثًا، فإن «تهاليل الشرق» تستحضر ذاكرةً وتحوّلها إلى مشهد احتفالي معاصر.
.
■ الهوية والذاكرة
.
من منظور فلسفي، «تهاليل الشرق» مشروع في الذاكرة والهوية. مارسيل خليفة يصرّح بأن العمل يستعيد ما تربّى عليه: الطرب، الموال، النواح، اللونغة، الموشّح وسواهم. لكن هذا الاستدعاء ليس فولكلوريًّا محضًا، بل إعادة بناء داخل لغة جديدة. هنا نلمس سؤال الهوية: كيف يمكن للشرق أن يبقى شرقًا وهو ينفتح على العالمية؟ هل يستطيع أن يدخل صالة السّمفونيات الغربية دون أن يفقد مقاميّته، طربيته، خصوصيته؟
.
Carmina Burana بدورها مشروع هوية، لكنها هوية أوروبية من نوع آخر: نصوص القرون الوسطى التي لم تعد مفهومة مباشرة للجمهور، لكنها تعكس صورة أوروبا ما قبل الحداثة، بكل بهجتها وقلقها. أورف لم يبتكر نصوصًا جديدة، بل أعاد الحياة إلى نصوص منسيّة. خليفة كذلك لم يخترع مقامات أو مواويل جديدة، بل أعاد توطينها في فضاء جديد. لكن الفارق أن أورف كان يعيد أوروبا إلى نفسها، بينما خليفة يحاول أن يعيد الشرق إلى العالم؛ أورف يأتي من الماضي وإليه، بينما يأتي خليفة من المُستقبل وإليه.
.
■ الجمال والقداسة
.
العنوان «تهاليل الشرق» يثير إيحاءً دينيًّا: التهليل فعل طقسي، دعاء، صلاة. لكن خليفة يستعمل الكلمة خارج سياقها التقليدي، ليشير إلى مديحٍ موسيقي للشرق. في ذلك بعد فلسفي: الجمال الموسيقي يقترب من القداسة، لكنه ليس دينيًّا؛ إنه قداسة الهُوية، قداسة الذاكرة. بهذا المعنى، «تهاليل الشرق» هي محاولة لإيجاد طقس موسيقي معاصر، طقس يوحّد المستمعين حول نشيد الهوية؛ الهُويّة المتحولّة، المتفاعلة والمُرتحلة، لا الهويّة الجامدة، المتحجّرة، والمتقوقعة.
.
Carmina Burana هي كذلك طقس، لكنه طقس دنيوي–قدري. «O Fortuna» تبدو كترنيمة كنسيّة، لكنها تحتفي بالقدر لا بالله، بالزمن الذي يدور ولا يرحم. العمل كله يشبه قدّاسًا مقلوبًا: قدّاسًا للإنسان في دنيويّته، لبهجته وهشاشته. هنا يلتقي العملان: كلاهما ينتجان إحساسًا احتفاليًّا جماعيًّا، كلاهما يضع المستمع في مقام طقس موسيقي، لكن موضوع الطقس مختلف: القدر والإنسان عند أورف، الهوية والذاكرة عند خليفة.
.
■ الأصالة والتّجديد
.
النقد الذي يوجّه غالبًا لمثل هذه المشاريع هو خطر فُقدان الأصالة. هل تتحوّل المقامات الشرقية، حين تُوزّع أوركستراليًا، إلى مجرد زخارف؟ هل تفقد الموال والنواح طابعها الحرّ حين تُقيَّد بإيقاعات السيمفونية؟ في “تهاليل الشرق”، التحدي كبير: التوفيق بين الحرية الطربية والصرامة الأوركسترالية. هنا تظهر براعة خليفة: هو لا يذيب الشرق في الغرب، ولا يترك الغرب يبتلع الشرق، بل يحاول إيجاد لغة ثالثة. مع ذلك، يظل السؤال مشروعًا: هل هذه اللغة الثالثة مفهومة للجمهور الشرقي كما هي مفهومة للجمهور الغربي؟
.
في Carmina Burana، النّقد جاء من بساطة التركيب الموسيقي. أورف اعتمد على الإيقاع والتكرار أكثر من التعقيد الهارموني أو البوليفوني. لكن هذه البساطة كانت مصدر قوته: أثّرت في الجمهور بقوة مباشرة، وصارت أيقونة موسيقية. خليفة يسلك مسارًا مشابهًا: التبسيط أحيانًا ضروري لإيصال الفكرة، لكن الخطر هو أن يُتَّهم العمل بالتجميعية أو بالسّطحية، وهو ما لم يحدث في “تهاليل الشّرق” الذي نجح بأن يكون تُحفةً موسيقيّة (Masterpiece) أصيلة.
.
■ فلسفة الزمن والتاريخ

كلا العملين يثير سؤال الزّمن. Carmina Burana تبدأ بـ «O Fortuna»، عجلة القدر التي تدور. الزمن دائري، الإنسان مسجون في رحاه. العمل نفسه يعود في نهايته إلى بدايته، مؤكدًا هذا الدّوران. الزمن هنا قوة قاهرة، قدرية، فوق إنسانية.
“تهاليل الشرق” لا تقوم على بنية دائرية، لكنها تقوم على استدعاء الماضي للحاضر. الزمن هنا ليس قدرًا، بل ذاكرة. ليس دورانًا لا فكاك منه، بل استحضار يمكن أن يمنح المستقبل معنى. الفلسفة الموسيقية هنا مختلفة: أورف يقول إنّنا أسرى الزمن، خليفة يقول إننا بُناة الذاكرة. الأول قدريّ، بينما الثاني فعلٌ إنساني مقاوم للنّسيان.
.
■ البُعد السياسي
.
يصعب أن نفصل فن مارسيل خليفة عن السياسة. منذ بداياته وهو صوت المقاومة الفلسطينية والعربية. “تهاليل الشرق” تبدو أقل مباشرة في خطابها السياسي، لكنها في جوهرها عمل سياسي: أن تجمع العرب والفرس والأتراك والأكراد وسواهم في عمل واحد هو فعل سياسي، رسالة وحدة في زمن الانقسامات. أن تجعل الهوية الشرقية سيرة موسيقية تُعزف أمام جمهور عالمي هو فعل مقاومة ثقافية. هنا تبرز قوة العمل: أنه يقدّم السياسة من خلال الجمال، لا من خلال الشعارات.

Carmina Burana وُلدت في زمن سياسي مضطرب (ألمانيا النازية)، لكنها لم تكن عملًا دعائيًا. بل إن أورف نفسه بقي مثار جدل حول علاقته بالنظام. مع ذلك، العمل في جوهره دنيوي–إنساني، لا سياسي مباشر. الفارق أن أورف قدّم الإنسان أمام القدر، بينما خليفة قدّم الشرق أمام العالم.
.
■ النقد الفلسفي النهائي
.
من منظور فلسفي، “تهاليل الشرق” تجسيد لفكرة الهوية بوصفها حركةً لا بوصفها جوهرًا ثابتًا. الهوية هنا ليست جوهرًا شرقيًا أصيلًا يتجمّد، ولا ذوبانًا في العالمية، بل حركة بين الاثنين: ذاكرة تُستعاد، تُعاد صياغتها، تُقدّم في لغة جديدة. هذا ما يجعل العمل فلسفيًّا: إنه يقول إن الهوية فعلٌ مستمر، لا ماضٍ منغلق ولا حاضر ذائب. في المقابل، Carmina Burana تقدّم صورة أخرى: الإنسان ككائن عالق في دورة القدر، يعيش الفرح والحب والخمر، ثم يعود إلى رهبة الزمن. هنا الهوية إنسانية عامة، لا محلية، لكنها قدرية لا فكاك منها.
.
اختيار منهجية المقارنة يكمن في أن العملين يقدّمان رؤيتين للعالم: الأولى (أورف) رؤية وجودية–قدرية، الثانية (خليفة) رؤية هوياتية–مقاوِمة. كلاهما يوظف الموسيقى الأوركسترالية والكورالية لإحداث أثر طقسي جماعي، لكن الطقس الأول دنيوي–كوسمولوجي، والطقس الثاني ذاكراتي–ثقافي.
.
تهاليل الشرق لمارسيل خليفة ليست مجرد مؤلَّف موسيقي؛ إنها مشروع فلسفي–جمالي في الهوية. إنها محاولة لتأسيس طقس موسيقي جديد للشرق، طقس يجمع التراث والحداثة، المحلية والعالمية، الأنا والآخر.
.
في زمنٍ يتأرجح فيه الشرق بين التفتُّت والعولمة، تأتي “تهاليل الشرق” لتقول إنّ الموسيقى قادرة أن تجمع، أن تستعيد، أن تؤسّس. إنها ليست مجرد تهليل للجمال، بل تهليلٌ للهوية، للذاكرة، وللقدرة على تحويل الحنين إلى مشروع عالمي. وإذا كانت “كارمينا بورانا” قد منحت أوروبا نشيدًا للقدر والإنسان، فإن “تهاليل الشرق” تسعى إلى منح الشرق نشيدًا للذاكرة والوجود. وهنا تكمن أهميتها: في هذا العبور بين الجمال والسياسة، بين التراث والحداثة، بين الشرق والعالم.
.

Marcel Michel Khalife

إغلاق