أخبار عالميه

أجواء حرب باردة بين روسيا والغرب: استعراض قوة وتراشق كوبنهاغن ــ ناصر السهلي

أجواء حرب باردة بين روسيا والغرب: استعراض قوة وتراشق

كوبنهاغن ــ ناصر السهلي

تشهد العلاقة بين روسيا والغرب توتراً غير مسبوق عكسته لغة التراشق والتهديدات المتبادلة، بما في ذلك ما يتعلق بالملف السوري الذي تحول إلى أحد أبرز عناوين التباين. لكن الأمر لم يتوقف عند هذا الحد، بعدما شهدت الفترة الأخيرة استعراضاً واسعاً للقوة العسكرية بين روسيا وحلف شمال الأطلسي. كما دخل الإعلام على خط المعركة بما في ذلك الدعوة داخل روسيا لـ”الاستعداد لحرب نووية”. تطورات متسارعة عدة دفعت العديد من المراقبين والخبراء الأمنيين إلى تشبيه ما يجري في الآونة الأخيرة بأنه عودة إلى أوج فترة الحرب الباردة إبان الاتحاد السوفييتي، مبدين خشيتهم من تصاعد تسخين الجبهات وارتداداته على أكثر من ملف.

تهويل روسي
يصف مراقبون في دول البلطيق وإسكندنافيا القدر الذي وصل إليه الإعلام الروسي في حملته الدعائية، بأنها “أشبه بخطابات دعائية لفترة الحرب الباردة (1947 ـ 1991)”.
رصد التعاطي الإعلامي الروسي مع تأزم العلاقة بالغرب يعزز هذا الاعتقاد، إذ يلاحظ تكراراً استخدام عبارة “يُنصح الروس بالاستعداد لحرب نووية”، وفقاً لما ذهبت إليه وكالة أنباء “يو أر أيه” الروسية منتصف شهر أكتوبر/تشرين الأول الحالي. وفي بعض الصحف ووسائل الإعلام الروسية تبرز تحذيرات من “الانزلاق إلى حرب عالمية ثالثة”، وفقاً لما ذهبت إليه صحيفة “كومسمول” بعد انهيار الهدنة في مدينة حلب السورية أخيراً.
لم يتوقف الأمر عند هذا الحد. الإعلامي الروسي ديمتري كيسيلشوف “نصح” المواطنين الروس باليقظة بشكل دائم ومعرفة أين توجد الملاجئ بالقرب منهم، وذلك خلال برنامجه “آخر الأسبوع” (فيستي نيدلي) في 9 أكتوبر/تشرين الأول الحالي على التلفزيون الروسي. ويعد كيسيلشوف شخصية معروفة بقربها من دوائر صنع القرار في الكرملين، وتطلق عليه وكالة “سبوتنيك” لقب “وزير الدعاية الروسي”.

وبالنسبة إلى وسائل الإعلام الإسكندنافية، فإن ما يذهب إليه الروس في حملة إعلامية ضخمة عن توسع الحرب الباردة “بات يخرج عن مجرد تكهنات” وتعززه تحركات على الأرض.
في هذا السياق، نظّمت روسيا مناورات داخلية لـ”الدفاع المدني”، لأكثر من 40 مليون روسي،

وأرسلت قاذفتين استراتيجيتين جابتا أجواء أوروبا من الشمال حتى الجنوب، وكأن الحرب واقعة غداً. وهو أمر يقلق المحيط الجغرافي من البلطيق إلى فنلندا والنرويج والدنمارك والسويد. والأخيرة تلقت تهديدات مبطنة وعلنية بـ”تلقي ضربة نووية”، لا بل إن وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف، توجّه في شهر أبريل/نيسان الماضي، إلى استوكهولم قائلاً إن “الأمر (التهديدات) ليس شخصياً بل مجرد عمل”.

وفي ظل هذه الأجواء يهتم خبراء عسكريون في دول الشمال بتحركات روسيا العسكرية، حتى في البحر المتوسط، كالمناورات مع مصر، إلى جانب نشر صواريخ “إسكندر” في كالينينغراد، وتصاعد اللهجة عن إحياء قواعد في كوبا وفيتنام، بعد حديث عن توسيع التواجد قبالة السواحل السورية والمصرية. وكي يضفي الروس جدية على ما يقولونه تذهب وسائل إعلامهم للتذكير بمقولة للرئيس الروسي فلاديمير بوتين: “تعلمت في شوارع سان بطرسبرغ أنه إذا كان لا مفرّ من القتال عليك بالضرب أولاً”.

عليه، يأخذ خبراء عسكريون في الشمال الأمر جدياً، ذلك إن “ما يبثه الروس عن الحرب الباردة بهذا الشكل العلني والمباشر مثير جداً”، وفقاً لما ذكر الجنرال الدنماركي السابق المختص بنظريات الحروب، ميكائيل كليمنسن، لصحيفة “بوليتكن”. وفي السياق، يعتبر الصحافي الأميركي باتريك لورانس في صحيفة “ذا نيشن”، ذات التوجه اليساري، أن “موسكو وجهت رسالة إلى واشنطن، مفادها بأنه إذا ما أصريتم على إعلان الحرب الباردة الثانية، فسنقودها”، مضيفاً “إذا كنت محقاً فإن الأمر يبدو قاتماً جداً”.

وتعيد الأجواء الحالية أوضاع دول الشمال إلى حقبة الجنرال السوفييتي ستانسلاف بيتروف، في مخبئه النووي خارج موسكو. ذلك أنه في عام 1983، وبعد ثلاثة أسابيع من إسقاط الجيش السوفييتي لطائرة تابعة للخطوط الجوية الكورية الجنوبية، كان بيتروف ضابط المناوبة في مركز قيادة تابع لمنظومة “أوكا” للإنذار المبكر. حينها بعث النظام إشارة تحذير من “خمسة صواريخ أطلقت من الولايات المتحدة”، وفق المنظومة. قرر بيتروف أن “الإنذار كاذب”، وقد منع بقراره هذا هجمة نووية انتقامية على الولايات المتحدة وحلفائها في حلف شمال الأطلسي كانت لتؤدي إلى حرب نووية واسعة النطاق. ولاحقاً أثبتت التحقيقات أن نظام الإنذار المبكر المعتمد على الأقمار الاصطناعية كان قد أصابه الخلل بالفعل.

حلف شمال الأطلسي يعزز انتشاره
على الرغم من تصدر الروس تحريك رماد الحرب الباردة لكن يبدو أنهم ليسوا بمفردهم. إعلامياً أعادت صحيفة “ذا ناشيونال انترست” الأميركية المحافظة، التذكير بوجود “أسلحة مدمّرة لدى روسيا والغرب”. كما نشرت سلسلة مقالات وتحليلات طيلة الشهر الحالي، توحي بأن العالم عاد إلى مرحلة عام 1983 وشعار “إمبراطورية الشر”.
أما عسكرياً، يبدو أن مخاوف حلف شمال الأطلسي، جعلته يُسرع من عملية نشر قوات كان مقرراً لها أن تبدأ مطلع 2017. ففي كل من إستونيا وليتوانيا ولاتفيا يجري إرسال كتائب عسكرية بمشاركة عدد من الدول كبريطانيا، وكندا، وفرنسا، والدنمارك، وهولندا. وفي بولندا بدأت الولايات المتحدة بنشر قوات ومعدات عسكرية وتنشيط حركة طيران الاستطلاع العسكري في المنطقة، مع توسيع التواجد في النرويج والتزام بدعم السويد ودفاعاتها بوجه أي تهديد روسي.

وسبق لحلف شمال الأطلسي أن بدأ بنشر قوة الرد المؤلفة من 30 إلى 40 ألفاً، التي تظهر قدرة انتشار خلال 5 أيام، من دون أن يعلن الكثير عن أماكن نشر بعض تلك القوات. كما باتت قوات التدخل السريع (بين 5 إلى 10 آلاف عنصر) جاهزة ومسلحة للقيام بانتشار خلال يومين من تلقي الأوامر.
ويعتبر خبراء غربيون أن هذه التحركات، والتي يطلق عليها “الانتشار الأوسع منذ الحرب العالمية الثانية”، هي “الوسيلة الأنجع لتوجيه رسالة إلى موسكو والتزام كامل بالدفاع عن أوروبا”.
وفي السياق نفسه، لم يتردد السويديون، والذين يعتبرون أنهم من بين أكثر المعنيين بالتهديدات، بتقوية صناعاتهم العسكرية والتنسيق مع حلف شمال الأطلسي، منذ ضمّ روسيا لشبه جزيرة القرم الأوكرانية عام 2014. ويظهر هذا التوجه أن استوكهولم تخلّت عن حذرها من الأطلسي، باعتبارها “خارج الأحلاف”، الأمر الذي يغضب الروس أكثر، فهو يرتبط باعتبارات عسكرية واقتصادية، كخط غاز الشمال الذي تتردد السويد والدنمارك في تمريره. ففي مطلع أكتوبر/تشرين الأول وصل التوتر قمته، بعد عام كامل من تعبير موسكو عن قلقها من التقارب بين دول الشمال والبلطيق. ولا يغيب عن بال الروس المناورات العسكرية التي شهدتها بولندا صيف هذا العام، وقمة الحلف الأطلسي في وارسو وما حملته من استراتيجية انتشار واسع دفاعاً عن الأعضاء، وحتى غير الأعضاء كما في حالة السويد. أيضاً يبدو أن روسيا ليست معجبة بالتعاون العسكري الوثيق بين فنلندا والسويد والنرويج وايسلندا والدنمارك. حتى إنها اندفعت لتوقيع اتفاقيات مع فنلندا لإبعادها عن حضن الأطلسي. كما لم يعد خفياً أن اجتماع مجلس دول الشمال في 2015 وضع روسيا “بعد سلسلة من الخروق لسيادة دول الشمال أحد أهم التهديدات التي تواجه أوروبا”.


سورية عنوان للتباين

تصاعد النبرة السياسية والإعلامية بحق روسيا ينمّ برأي كثير من المراقبين للعلاقات بين موسكو ودول البلطيق والشمال، عن تأزم حقيقي ومتراكم في انعدام الثقة بين الجانبين. بل إن الاستخبارات العسكرية والمدنية في تلك الدول بدأت تلقي الضوء أكثر على “محاولات بوتين اختراق الساحة الحزبية فيها”.
وباتت القضية السورية، وبشكل متدرج، أحد عناوين هذه المواجهة. ففي السويد والدنمارك أصبح “جرائم الحرب الروسية في سورية” محوراً أساسياً للنقاش.
وفي هذا الصدد، يقول أحد أعضاء البرلمان الدنماركي لـ”العربي الجديد”، إن “هذه الخطوة جزء من تسليط الضوء أكثر والضغط على روسيا. نحن بالفعل أمام مقدمات لحرب باردة ستسخن جبهاتها أكثر”. من جهته، يستشهد أحد أعضاء لجنة الشؤون الخارجية عن اليسار الدنماركي بأحداث تشير إلى سخونة الوضع “فقبل أيام سجلت الرادارات اقتراب طائرات روسية من أجواء استونيا كرسالة استفزاز واضحة، لكن الطائرات الاستراتيجية لحلف شمال الأطلسي ردت بالتحليق وأبعدتها عن أجواء استونيا واستعرضت قوتها من فوق النرويج مروراً بدول أوروبا حتى إسبانيا”.

من جهته يلفت الخبير في مجال الدفاع في كوبنهاغن، فليمنغ كريستيانسن، في حديثٍ لـ”العربي الجديد”، إلى أنه “شهدنا مثل هذه الطفرات فيما يطلق عليه موجات حرب باردة، على الأقل بين الأميركيين والروس. وذلك في كوسوفو والعراق وجورجيا وليبيا وأوكرانيا، والآن سورية. لكن ما يميز الوضع الحالي هي الأحلام الشخصية لبوتين الذي يلعب على المشاعر القومية، ليس لشعبه فقط بل يتوسع في خطابه إلى ما يسميه الأوراس”.
ويرى كريستيانسن بأن “العالم اليوم يقف على حافة عودة الحرب الباردة، فمجرد إلقاء نظرة على الدعاية الروسية سنكتشف بأنهم يشعرون بأنهم هزموا أميركا في الشرق الأوسط. لكن الواقع مختلف، وهذا هو الخطر، فأوضاع روسيا الداخلية اقتصادياً وسياسياً ليست على ما يرام”. ووفقاً لكريستيانسن فإن “الروس يبحثون دوماً عن إزاحة انتباه مواطنيهم نحو مشاكل أخرى. لكن يبقى أيضاً التنافس في القطب الشمالي، وخطوط الغاز، وطرق التجارة، بمثابة نقاط تناقض قائمة. يضاف إلى ذلك شعور الروس بأن من توسع، منذ سقوط الاتحاد السوفييتي، هو الغرب لا روسيا، وهنا يبدو الموقف الصيني الأكثر براغماتية في عملية التنافس، غائباً”.

في سياق متصل، يرى الخبير من المركز الدولي للدراسات الاستراتيجية، فليمنغ سبيلبدسبول هانسن، أن “التناقضات ستتصاعد في المستقبل المنظور. لكن يبقى الغرب، والولايات المتحدة تحديداً، بحاجة لروسيا، لحل مشاكل كبرى في أوكرانيا وسورية. وسنكون محظوظين إذا ما بقيت الساحات الأخرى معزولة عن الصراع”.

في غضون ذلك يعتبر الباحث في الشؤون الروسية كارل أندرسون، في حديث إلى “العربي الجديد، أن “الاستعراض العلني لنشر القوة بالقرب من حدود روسيا يستحق المجازفة، كون روسيا لا تفهم سوى لغة القوة. وفقط حين تشعر روسيا بأن الغرب يعني ما يقوله ويفعله ستتراجع وتصبح أكثر براغماتية”.
أما البروفسور في جامعة كوبنهاغن، الباحث في الشؤون الأمنية، ميكل راسموسن، فيصف لـ”العربي الجديد”، ما يجري اليوم بـ”لعبة خطرة”. يقول راسموسن نحن “أمام مشهد لم نره منذ الحرب العالمية الثانية، بل منذ القرن التاسع عشر. الأمر ليس أيديولوجياً هذه المرة. نحن اليوم لا نعرف قواعد هذه اللعبة كما كانت بعد الحرب الباردة. روسيا وبشكل ممنهج تقوم بتحطيم تلك القواعد التي تعارفنا عليها. بل في الواقع فإن سلاح بوتين السري هو اللعب من دون قواعد معروفة، ونحن في الغرب كنا نظن أننا نلعب معهم لعبة صيد سمك وفجأة صرنا أمام لعبة بوكر”. وبرأي راسموسن فإن “الولايات المتحدة تعيش شللاً الآن، وإذا ما مد الروس يدهم أكثر فإن الأمر سيتعقد للرئيس الأميركي المقبل، في مسألة التفاوض. وربما نرى من الآن تسخيناً روسياً لحرارة المواجهة ليستطيعوا تبريدها لاحقاً”.

مقالات ذات صلة

إغلاق