مقالات

رؤية * هذه السلسلة يكتبها د. محمد طلال بدران – مدير دار الإفتاء والبحوث الإسلامية – السلسلة مكونة من إثنَتَيْ عشرَة مقالة” 1-2-3-4-5”

عنوان السلسلة:
* خطبةٌ على عتبةِ السُّلطان: حينَ يُختطفُ الدّين

أما عنوان المقالة: “حين تصعدُ الفتوى إلى القصر: منابر تسبّح بحمد الطغاة”

* الحمد لله وكفى وسلام على عباده الذين اصطفى وبعد:
– في مشهد لا تخطئه عين المتأمل، يصعد بعض من لبسوا العمائم منابر الدين لا ليصدعوا بكلمة الحق، بل ليزيّنوا الباطل، ويباركوا طغيان السلطان، ويحوّلوا الدين إلى أداة تلميع وتبرير، تلك لحظة خطيرة، حين تُختطف الفتوى وتُساق إلى القصر، ويصبح صوت العدل مكمّمًا باسم “الطاعة”، ويُمنح الظالم صكوك الغفران بلغة شرعية مشوّهة.
* تحالف يشوّه جوهر الدين
لقد شكّل تحالف العمامة مع السلطان أحد أخطر المفاصل في علاقة الدين بالسلطة على امتداد التاريخ الإسلامي، لا بسبب قوة هذا التحالف فحسب، بل لِما يرتّبه من تشويه لجوهر الدين ذاته، وتحويله من رسالة تحرير وعدل إلى خطاب تبريري يرسّخ القهر والفساد، وهنا لا نتحدث عن الدين الحق، بل عن نسخة مزيفة منه، صاغها المنتفعون، وروّج لها فقهاء السلطان تحت لافتات الطاعة والسكينة والاجتماع، متغافلين عن أن الاجتماع على الظلم افتراق عن الحق، وأن السكينة التي تبرر الذل ليست من دين الله في شيء.
* ترويض الخطاب الديني
لقد أدرك الطغاة باكرًا أن الكلمة الصادقة تُقلق عروشهم، وأن الفتوى المبدئية تقف في وجه استبدادهم، فسعوا إلى ترويض الخطاب الديني، لا بإلغائه، بل بامتلاكه وتدجينه، فصار بعض أهل العمائم يخوضون في السياسة بألسنة دينية، يبرّرون قتل المعارض، ويسوّغون سجن المفكر، ويغضّون الطرف عن النهب والتسلّط، تحت لافتة درء الفتنة أو حماية الدولة.
* منابر مخصخصة للسلطة
والأخطر من ذلك، أن هذا التحالف لم يكن فقط اضطرارًا أو صمتًا، بل صار اندماجًا كاملًا، حتى بات صوت بعض منابر الجمعة ترديدًا لما يريده الحاكم لا ما يحتاجه الناس، وتحوّلت بعض المجالس الدينية إلى أبواق تمجيد، تبارك القرارات السياسية وتؤطرها تأطيرًا شرعيًا، وكأن الطاعة باتت غاية في ذاتها، لا وسيلة لتنظيم المجتمع في ظل عدالة وشورى.
* بيئة خصبة للتحالف
هذا التحالف لا ينمو في فراغ، بل يجد بيئته في أنظمة لا ترى في الدين إلا وسيلة ضبط، وفي فقهاء لا يرون في السلطة إلا مصدرًا للحماية والمكانة ومصدرٌ للدخل المادي، وهو تحالف تُهدر فيه كرامة الدين باسم الدين، ويُحاصر فيه العقل باسم السّكينة، ويُقمع فيه السؤال باسم التسليم.
* الأصوات التي لم تصمت
لكن التاريخ لم يكن يومًا صامتًا، فقد عرفنا أيضًا علماء وقفوا في وجه الظلم، ورفضوا بيع الفتوى، وارتضوا السجن والجوع بدلًا من المساومة على ضمائره، لم يكونوا مثاليين، بل مؤمنين بأن الدين لا يقبل أن يُستخدم مطيّة لتمكين الظلم، تلك هي الأصوات التي ينبغي أن تُستعاد، لا لتأجيج الفتنة، بل لتصحيح البوصلة، وإعادة الاعتبار لدور الدين كحارس للكرامة، لا كخادم للسلطان.
* طريق الإصلاح يبدأ من الوعي
إن معالجة هذا الملف لا تأتي بالتشهير أو التأثيم، بل بالتحليل العميق والفهم التاريخي، والربط بين ما جرى وما يجري، فما زال كثيرون يكررون أخطاء الأمس بأشكال جديدة، ويظنون أن الفتوى يمكن أن تشتري شرعية الاستبداد، لكن الوعي الجمعي بدأ يستفيق، ويدرك أن الحق لا يُقاس بما يُقال على المنبر، بل بما يثمره من عدالة وإنصاف وكرامة للإنسان.
* تحرير المنبر واستقلال الفقيه
وفي ظل هذا الوعي، تبقى مهمة الكلمة الحرّة، والتحليل النزيه، والطرح الواعي، ضرورية لفك هذا الارتباط المشوّه بين العمامة والسلطان، ولتحرير الدين من سطوة التوظيف السياسي، وردّه إلى أصله: صوتًا للحق، وراية للعدل، وأفقًا للحرية المسؤولة.
* الفقيه بين الناس والحق
ولعل أول الطريق نحو التصحيح يبدأ من إعادة تعريف مكانة الفقيه، ليس كموظف في بلاط السلطان، بل كضمير حيّ يقف بين الناس والحق، لا بين الناس والحاكم، فحين تستقل الفتوى عن القصر، وتتحرر المنابر من التوجيه السلطوي، يُمكن أن يعود للدين صوته النقيّ، وللعدل سطوعه، وللناس ثقتهم بأن الدين لا يمكن أن يخذلهم حين يطلبون الإنصاف.
وأختتِم هذه المقالة الأولى في هذه السلسلة بقولي: إن تحالف العمامة مع السلطان يُشكل تحديًا حقيقيًا لجوهر الدين ورسالاته السامية، فالدين لا يُستخدم أبدًا كأداة للظلم، بل هو نبع للعدالة والحق، ولن يتحقق الإصلاح إلا حين يُستعاد الخطاب الديني ليصنع المستقبل، ويعود الفقيه إلى دوره الحقيقي كحارس للعدالة، لا كأداة بيد السلطان… ولكم مني كلّ الحبّ والتحية والمودة والسلام.
* أما عنوان مقالة الغد بمشيئة الله تعالى: “أحاديث تُروى على المقاس: صناعة النصوص وفق هوى الحاكم”

* اللهم لا تجعل للهوى علينا سبيلًا، ولا للباطل في قلوبنا مدخلًا، واحقن دماء أمتنا
* مقالة رقم: (1954)
* 10. ذو القِعدة. 1446 هـ
* ألخميس. 08.05.2025 م
باحترام: د. محمد طلال بدران (أبو صُهيب)

رؤية
************
عنوان السلسلة:
* خطبةٌ على عتبةِ السُّلطان: حينَ يُختطفُ الدّين

عنوان المقالة: “أحاديث تُروى على المقاس: صناعة النصوص وفق هوى الحاكم” (2)

* الحمد لله وكفى وسلام على عباده الذين اصطفى وبعد:
– في لحظات الانحدار الحضاري، حين يصبح الباطل سلطانًا والحق متّهمًا، تبرز فئة تتقن حياكة “النصوص المقدسة” لتناسب مقاس الطغيان، وتُخيط الأحاديث كما تُفصّل الثياب، لا لتهدي الأمة، بل لترضى السلطان وتُسكِت الغضب الشعبي، نحن هنا لا نتحدث عن أخطاء فردية في النقل أو الفهم، بل عن مشروع ممنهج لتطويع الدين وإعادة قولبته على مقاس الحاكم، حتى يصبح الشرع خادمًا للسلطة بدل أن تكون السلطة خادمة للشرع.
* التزييف باسم الحديث: حين يُصبح النص خادمًا للحاكم
– تُروى الأحاديث لتكريس الطاعة المطلقة، وتُحذف السنن التي ترفع من قيمة الكرامة والعدل، يَستحضر المروِّجون دائمًا: “اسمع وأطع وإن ضرب ظهرك وأخذ مالك”، ويُسقطون كل ما قيل عن الشورى، والنصيحة، والاحتساب، ورفض الجور، يغيب “أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر”. يُقصى عن المنابر، وتُلغى دلالاته من الوعي الجمعي.
وهنا لا بد أن نفرّق بين طاعة وليّ الأمر الشرعي، العادل، المنتخب بحقٍ وشفافية،ثم أقام العدل، وبين طاعة طاغية يعيث في الأرض فسادًا، ويجد من يبرر له إفساده بآيات وأحاديث تخرج من سياقها، أو تُنتزع من تاريخها لتُزرع زورًا في حاضر مختلف تمامًا.
* فتاوى مفصّلة: الدين كما يريد الحاكم
ما أكثر “المفتين” الذين يقيسون فتاواهم على رغبات السلطة والسّلطان، يُسألون فيفتون بما يُرضي الحاكم لا بما يُرضي الله، يحرّمون الخروج على الظالم إذا كان الحاكم، ويُبشّرون بثورات إذا كان العدو في الخارج، تُستعمل ذات الأدوات النصية، لكن بالاتجاه الذي يحدده أصحاب القصور، فهؤلاء لا يجهلون النصوص، بل يعرفونها، ويتعمدون الكتمان أو التبديل، فيسوقون الناس بحديث منتقى من بين عشرات الأحاديث، أو بآية من دون تفسيرها، أو بتأويل خاص يفصلونه لتجميل واقع قبيح.
* المنابرُ المصادرة: حين يُختزل الدين في “حُسن الطاعة”
أصبح منبر الجمعة في كثير من البلاد منبرًا للمدح والتمجيد، لا للحق والتذكير، يتحوّل الخطيب إلى موظف حكومي يُقرأ عليه النص من الأعلى، ويُحاسب إن خرج عن النصّ، يُراد من الإمام أن يُقنع الناس أن “الطاعة” هي رأس الفضائل، وأن المطالبة بالعدالة فتنة، وأنّ التنديد بالظلم خروج.
وهكذا تُغتال القيم، لا بسيف العسكر فقط، بل بلسان من يرتدي عباءة الدين، فلا غرو أن تصبح “الطاعة العمياء” شعار المرحلة، بينما يُدفن “العدل أساس الملك”، ويُتهم من يدعو للإصلاح بأنه مفسد في الأرض.. أو يخدم الأعداء، أو إرهابي .
* نحو نصٍّ محرَّر من القصر
ما أحوجنا اليوم إلى قراءة صادقة للنصوص، محرّرة من قبضة السياسة، منفتحة على مقاصد الشريعة، لا على مقاصد السلطان. أن نُعيد للنص روحه، فيكون للكرامة، وللحرية، وللعدالة، لا للسكوت والتطبيع مع الفساد،
فالنص الذي يُستخدم لتكريس الطغيان، هو نصٌ مغشوش أو مُحرّف السياق، ولو بدا صحيحًا في ظاهره، الدين الذي يُسوَّق به الاستبداد، ليس الدين الذي جاء به محمد عليه الصلاة والسلام، بل دين مُفصّل في بلاط السلطان، لا في محراب الإيمان.
* الدين لا يُختزل في طاعة الطغاة
إن أكبر خيانة تُرتكب باسم الدين، هي تزوير النصوص، وترويض العقول على قبول الظلم باسم الحديث الشريف، فعلى أهل العلم من العلماء أن يُحرروا النصوص من قيود البلاط، ويعيدوا للدين وظيفته الكبرى: أن يكون هاديًا للناس، لا حارسًا للظالمين،
فالسكوت هنا ليس حيادًا، بل خيانة، والمجاملة ليست حكمة، بل مشاركة في الظلم، وليُرفع الشعار عاليًا:
“هذا دين الله، لا دين السلطان..” ولكم مني كل تحية وسلام.
عنوان مقالة الغد إن شاء الله: “العالِم السلطاني: من الورع إلى الولاء للظلم”
* اللهم لا تجعل للهوى علينا سبيلًا، ولا للباطل في قلوبنا مدخلًا، واحقن دماء أمتنا، جمعة مباركة
* مقالة رقم: (1955)
* 11. ذو القِعدة. 1446 هـ
* ألجمعة. 09.05.2025 م
باحترام: د. محمد طلال بدران (أبو صُهيب)

**********

رؤية
* هذه السلسلة يكتبها د. محمد طلال بدران – مدير دار الإفتاء والبحوث الإسلامية –
السلسلة مكونة من إثنَتَيْ عشرَة مقالة.
عنوان السلسلة:
* خطبةٌ على عتبةِ السُّلطان: حينَ يُختطفُ الدّين

عنوان المقالة: “العالِم السلطاني: من الورع إلى الولاء للظلم” (3)
* الحمد لله وكفى وسلام على عباده الذين اصطفى وبعد:
– لم يكن العالِم يومًا في ثقافتنا مجرد ناقل أحكام أو حافظ نصوص، بل كان ضمير الأمة الحيّ، ومحرّكُ وعيِها، وبوصلة مسارها حين يختلط الطريق، فالعلم في حضارتنا قرين التقوى، والفتوى أمانة ثقيلة لا يُقدِم عليها من يخشى الناس أكثر من خشيته لله، لكننا اليوم أمام مشهد مقلق: ظاهرة العالِم السلطاني، الذي تخلّى عن الورع، ولبس عباءة الولاء للطغيان.
* من الورع النبوي إلى منابر السلطان
كان السلف يتحاشون الفتيا في مسائل السلطان، لما فيها من خطر الانحراف، وكانوا يهربون من أبوابه كما يهرب الصالحون من النار، أما اليوم، فقد أصبح بعض العلماء يتسابقون إلى تلك الأبواب، يُسبّحون بحمد الحاكم، ويلوون النصوص لتبرير ظلمه، ويجرّمون معارضيه.
– لقد انتقل الورع من ميزان الفتوى إلى هوامش الخُطب الرسمية، حيث لا يُذكر اسم الله إلا مقرونًا بالحاكم، ولا تُستدعى الشريعة إلا لتبرير سياساته، إن أخطر ما يفعله العالِم السلطاني ليس سكوته عن المنكر، بل تلبيسه بثوب المعروف، فيضلّ الناس وهم يظنون أنهم مهتدون.
* تحوّل الدور: من مقاومة الظلم إلى تسويغه
العالِم حين يختار القرب من السلطان، يفقد القدرة على قول “لا”، فتذبل كلماته، ويبهت نُصحه، ويُصبح شريكًا في صناعة الصمت العام، وربما يظنّ أنه يُصلح من الداخل، لكنه يُستهلك كأداة تزيين، ويُختزل علمه في تبرير القمع، وتشويه المفاهيم: فيُصبح الجهاد فتنة، والمطالبة بالحقوق خيانة، والسكوت حِكمَة، والانبطاح طاعة.
– وحين تتحوّل الفتوى إلى أداة بيد السياسي، ينكسر ظهر الأمة، لأن المرجعية التي كانت تُوازن السلطة أصبحت في خدمتها، فيُضرب الدين بسيف الدين، ويُقهر الأحرار باسم الطاعة، وتُشوّه صورة الإسلام في عيون الجيل الصاعد.
* فتنة التديّن المُزيَّف
إن أخطر ما يُهدد المجتمعات ليس غياب المتدينين، بل ظهور تديّن مُزيَّف يرفع لافتة الشريعة ويخفي خلفها مصالح السلطان، فالعالِم السلطاني لا يكتفي بإسكات صوت الحق، بل يصطنع بديلًا دينيًا يُخدّر به الجماهير، ويحوّلهم إلى رَعايا لا رُسُل رسالة. وهكذا يُعاد إنتاج الاستبداد بثوب الوعظ الديني، ويُقتل الوعي تحت شعار الرضا بالقضاء.
* الأمة تحتاج علماء يقفون لا ينحنون
لسنا بحاجة إلى علماء يحفظون كراسيهم، بل إلى من يحفظون هيبة الدين، ويثبتون حين تضعف الجموع، إلى من يتأسون بمالك يوم عُذّب لأنه رفض فُتيا تُرضي الحاكم، وبأحمد بن حنبل حين جُلد لأنه أبى أن يبيع علمه.
– إن أخطر ما يُفرّغ الدين من روحه هو استئجار العالِم، وتأميم خطابه، بحيث لا يبقى من الإسلام إلا قشوره، ولا من الخطبة إلا صداها، فلنُعدِ الاعتبار للعالم الذي يصدع بالحق لأن الله أمره، لا لأن الناس صفقوا له.
* خاتمة: العالم الذي يبيع صمته، يشتري لعنة التاريخ
إن التاريخ لا ينسى العلماء الذين صمتوا حين وجب الكلام، ولا من منحوا الظالمين شرعية زائفة، وقد صدق ابن القيم حين قال: “العالِم إذا لم يعمل بعلمه زلّت فتاواه، وكان ضرره أعظم من ضرر الجاهل.”
فيا علماء الأمة: إن لم نملك تغيير السلطان، فلا نُسبّح بحمده، ولا نُهندس ظلمَه بمصطلحات الشريعة، الكلمة أمانة، والصمت في حضرة الجلاد جريمة، والعالِم الذي يسكن عتبة السلطان يهوي من مقام الورع إلى مستنقع الولاء للظلم… ولكم مني كل تحية وسلام.

-عنوان مقالة الغد إن شاء الله: “تحريم الفكر المعارض وتحليل القمع: فقهاء السلطان في مرايا الشعوب”

* اللهم لا تجعل للهوى علينا سبيلًا، ولا للباطل في قلوبنا مدخلًا، واحقن دماء أمتنا
* مقالة رقم: (1956)
* 12. ذو القِعدة. 1446 هـ
* ألسبت. 10.05.2025 م
باحترام: د. محمد طلال بدران (أبو صُهيب)

*************

رؤية
* هذه السلسلة يكتبها د. محمد طلال بدران – مدير دار الإفتاء والبحوث الإسلامية –
السلسلة مكونة من إثنَتَيْ عشرَة مقالة.
عنوان السلسلة:
* خطبةٌ على عتبةِ السُّلطان: حينَ يُختطفُ الدّين

عنوان المقالة: “تحريم الفكر المعارض وتحليل القمع: فقهاء السلطان في مرايا الشعوب” (4)
– الحمد لله وكفى وسلام على عباده الذين اصطفى وبعد:
* مدخل: حين يصبح “السكوت حكمة” مفروضة
في عصور الانحطاط، لا يحتاج الطغاة إلى جيوش جرارة لتكميم الأفواه، بل يكفيهم فقيهٌ على المنبر، يلبس العباءة ويقرأ من النصوص ما يحلو له، ثم يخرج بفتوى تحرِّم الثورة وتحلِّل السياط، ذاك الفقيه لا يهمه أن يكون الدين عدلاً، بل أن يكون غطاءً للقمع، وهكذا، يتحوّل “العالِم الرباني” إلى “بوق سلطاني”، يحرّم المعارضة لأنها “شق لعصا الطاعة”، ويبارك الظلم لأنه “من قدر الله”.
* تحريم المعارضة: فقه مزيف في ثياب الشريعة
من أين جاءت فتاوى “لا يجوز الخروج على الحاكم ولو جلد ظهرك وأخذ مالك”؟ وكيف أصبحت هذه العبارات صنمًا تعبده الجماهير باسم الدين؟ لقد أُخرجت من سياقاتها، وقطعت عن مقاصدها، واستخدِمت لإنتاج شعب خانع، لا يرى في الظلم سوى ابتلاء، ولا في الطغيان إلا امتحانًا.
– فهؤلاء الفقهاء يخلطون بين الطاعة السياسية والطاعة الدينية، وبين الخضوع لله والخنوع للحاكم، يزرعون الخوف من “الفتنة” في كل معترض، حتى صار الناس يرون في أي رأي مخالف تمهيدًا للفوضى، وهل هناك أخطر من أن تُشيطن الحرية باسم الله؟
* تحليل القمع: حين يتحوّل السجن إلى عبادة!
– المفارقة أن الظلم حين يأتي من الحاكم، يتحوّل في فتاوى فقهاء السلطان إلى “مصلحة راجحة” أو “درء للمفسدة”. فإذا سُجن المفكر قيل: “لأنه يثير البلبلة”، وإذا ضُرب المتظاهر قيل: “لأنه خرج عن طاعة ولي الأمر”، أما الفقير فلا يُسأل عن جوعه، بل يُلام على سوء صبره، وهكذا، تتحوّل السلطة إلى مقدّسة، والشعب إلى مذنب مثير للفتن.
– إنهم يحلّلون القمع ليحموا الكرسي، لا الدين، يُلبِسون ممارسات الجلادين عباءة الشريعة، ويجعلون من النصوص سيفًا مسلطًا على رقاب المظلومين لا الظالمين، في زمنهم، تصبح السجون حصونًا للفتوى، والتعذيب آليّةً للحفاظ على الأمن!
* في مرايا الشعوب: الوعي يفضح التواطؤ
– لكن الشعوب، مهما خُدعت، لا تنام طويلاً، لقد بات كثيرون اليوم يرون الحقيقة: أن بعض “العمائم” خانت الدين حين صادرت ضميره لصالح السلطان، وأن الفقيه الصادق لا يبرر الظلم بل يواجهه، ولا يحابي الحاكم بل ينصحه ولو بكلمة حق أمامه.
– في مرايا الشعوب، انعكس وجه الدين الحقيقي: دين يُحرّر لا يُقيّد، يُنصف لا يُبرّر، يزرع الكرامة لا الخضوع. وكل فقيه اختار القصر على المنبر، سيبقى في ذاكرة الناس لا كعالم، بل كشاهدة زور على مذابح العدالة.
* فقيه البلاط: من تربية السلطان إلى تبرير العدوان
– ليس كل فقيه ابن المحراب، فبعضهم تربّى في حضن السلطة، وتعلّم كيف يوازن بين الحروف والمصالح، يعرف متى يصمت، ومتى يتكلم، ومتى يلبّس الاستبداد عباءة “الضرورات”، إنه لا يكتفي بالسكوت عن الظلم، بل يمنحه شرعيةً مقدسة، وكأن الله فوّضه بحراسة العروش لا نصرة المظلومين.
– وليس أشد خطرًا على الأمة من فقيه يُعيد صياغة النصوص على مقاس الحاكم، ويُسكت ضمير الأمة باسم “الطاعة”، فباسمه تُخنق الأسئلة، وتُنسى العدالة، ويُساق الناس سوْقًا نحو الذل ﴿.. وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا﴾ (الكهف: 104)
* خاتمة: آن للفتوى أن تعود إلى موضعها
– الدين الحق لا يحرّم الفكر، بل يحفّز النقد، ولا يقدّس الحاكم، بل يراقبه، والمعارضة ليست رجسًا من عمل الشيطان، بل فريضة حين يعمّ الطغيان، وإذا كانت الفتوى يومًا قد طافت على أعتاب السلطان، فإن زمان الشعوب لا يقبل لها إلا أن تعود إلى محراب الحق، حيث لا يُعبد إلا الله، ولا يُخشى إلا ظلمه… ولكم مني كل تحية وسلام.
-عنوان مقالة الغد إن شاء الله: “فتاوى للبيع: بين فقه الضرورة والتنازلات المريبة”

* اللهم لا تجعل للهوى علينا سبيلًا، ولا للباطل في قلوبنا مدخلًا، واحقن دماء أمتنا
* مقالة رقم: (1957)
* 13. ذو القِعدة. 1446 هـ
* ألأحد . 11.05.2025 م
باحترام: د. محمد طلال بدران (أبو صُهيب)

******************

رؤية
* هذه السلسلة يكتبها د. محمد طلال بدران – مدير دار الإفتاء والبحوث الإسلامية –
السلسلة مكونة من إثنَتَيْ عشرَة مقالة.
عنوان السلسلة:
* خطبةٌ على عتبةِ السُّلطان: حينَ يُختطفُ الدّين

عنوان المقالة: “فتاوى للبيع: بين فقه الضرورة والتنازلات المريبة ” (5)
– الحمد لله وكفى وسلام على عباده الذين اصطفى وبعد:
* مدخل: حين يُستدرج الفقه إلى الأسواق
– لم يكن الفقه يومًا سلعةً تُعرض على الرفوف، ولا كانت الفتوى بضاعةً قابلة للمزايدة، لكن حين يُختطف الدين، يُسحب الفقه قسرًا إلى ساحات المساومة، وتُجبر النصوص على الرضوخ لأهواء السلاطين، ويُستبدل الورع بالتكلف، وتُسمّى التنازلاتُ “حِكْمة”، وتُغلف التبريراتُ بلبوس الضرورة، في مثل هذا المناخ، تولد فتاوى “تحت الطلب”، فتفقد الشريعة بهاءها، ويضيع صوت الحق بين همسات البلاط.
* فقه الضرورة: من رخصةٍ مؤقتة إلى مطيةٍ دائمة
– جاء فقه الضرورة رحمةً وتيسيرًا، يُفعل عند الضيق لا الرخاء، وعند الخوف لا الطمع، لكنه حين يفقِد ضوابطه، يُستغلّ ليصبح أداة تبرير لكل تراجع، وغطاءً لكل خنوع، ومتنفسًا لكل انتهازية، ما بين “الضرورة تُقدّر بقدرها” و”الضرورة تُفتح على مصراعيها” انفرجت الفجوة التي عبرت منها الفتاوى المريبة، تلك التي تُفصّل على مقاس الحاكم، وتُصاغ بلغة مطاطة تتحاشى إغضابه، وتلتف على النصوص باسم “المصلحة”، وهي منها براء.
* الفتوى في بلاط السلطان: الهاجس الأمني فوق المقصد الشرعي
– عندما تتسلل رهبة السلطان إلى قلب المفتي، يتحول الحكم الشرعي إلى نشرة علاقات عامة، فتوى تبيح الظلم “درءًا للفتنة”، وأخرى تصف التظاهر بـ”الخروج على الجماعة”، وثالثة تجرّم الاعتراض بحجة “شق عصا الطاعة”، إن انحراف بوصلة الفتوى عن مقاصد الشريعة نحو مصالح النظام، ليس مجرد خلل فني، بل اختطاف علني لوظيفة العالِم، وتصبح الخشية من الحاكم أعظم من خشية الله، وهنا تتحول “الهيبة” إلى “رهبة”، ويضيع الفرق بين الفقيه والأجير.
* من فقهاء الصدع إلى وعّاظ التطبيع
– قال رسول الله ﷺ: «أفضلُ الجهاد كلمةُ حقٍّ عند سلطان جائر» (رواه أحمد). لكن في زماننا، باتت الكلمة تُوزن بميزان المخابرات، وتُفصّل على مقاس التحالفات، حتى صِرنا نرى من “يفتي” بجواز التطبيع، بل ويمتدح الرأسمالية ودول الاستكبار ومن والاها بدعوى “دفع المفسدة”، بل وينحاز إليها، ويخضع ويستسلم لها، بل أصبح أداةً طيّعةً بيدها تعبث به كما تشاء، وأصبح المفتي التابع ينصح الأمة بالسكوت عن المظالم لأن “الوقت غير مناسب”، لم تعد الفتوى تهدف إلى بيان شرع الله، بل إلى تبرير مسار السلطة، ولو على حساب القدس، والدم، والكرامة.
* “اتقوا الله يا معشر العلماء”: صوتٌ من أعماق التاريخ
– حين كان العز بن عبد السلام (رحمه الله تعالى” يُفتي ضد تسلط المماليك، وقف يومًا يصرخ: “اتقوا الله يا معشر العلماء، فإنكم قادة الأمة، والناس تبعٌ لكم، وإن فسدت السلطة، فما ذلك إلا بفسادكم!”. هذه الصرخة ما تزال تتردد، لأن الأزمة تتكرر بأشكال مختلفة، وكلما صمت العلماء عن ظلم، أو زينوا القبح بفتوى، ازداد الخلل رسوخًا،
– إن السكوت عن الباطل ليس حيادًا، بل هو انحياز ضمني له، وإنه لا يُصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلُح به أولها.
* التمييع باسم “المصلحة”: الفتوى تُقايض المبادئ
– المصلحة الحقيقية لا تُعارض النصوص، بل تُفهم في ضوئها، أما حين تُرفع لافتة “المصلحة” فوق آيات الله، فاعلم أن الأمر فيه ريب، قال تعالى: ﴿وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ (البقرة: 42). واللبس اليوم يتم عبر تأويل مُفرط، وانتقاء انتقائي، وعزل الأحكام عن سياقاتها، ليُقال: “هذه فتوى واقعية”، وهي في حقيقتها فتوى مباعة.
* التنازلات المريبة: أين يقف الحد بين الحكمة والانبطاح؟
– التمييز بين الحكمة الشرعية والتنازل المريب ليس دائمًا سهلًا، لكن المؤشرات لا تخطئ:
حين يُخرس العالم عن الجهر بالحق…
حين يُستخدم الدين لترسيخ الاستبداد…
حين تُحرف النصوص لتجميل الفساد…
فهنا لا يُعد السكوت حكمة، بل خيانة.
ولا تُعد المداراة ذكاء، بل نفاقًا.
– إنه اختبار للعلماء، واختبار للمجتمع كذلك: هل نقبل أن يُستثمر الدين لتبرير قمع الشعوب؟ هل نُصغي لفتاوى تخدّر الضمير وتُمجّد القمع وتُلبس الخضوع لبوس الشرع؟
* خاتمة المقالة: منابر تُشترى وألسُن تُكتم
– في زمن الخوف والصفقات، تتوارى الأصوات الشجاعة خلف جدران الصمت، وتُفتح أبواب القصور لوعاظ لا يقولون: لا، بل “نعم وزيادة”، تُشترى المنابر، وتُقصقص الأجنحة، ويتحول الدين إلى أداة تزكيةٍ لا تقويم، وهنا، يصبح الفقه في خطر، والشريعة في امتحان، والعالِم الحقيقي بين نارين: نار السلطان، ونار الخذلان.
– لكن الأمل لا ينقطع، فكما في التاريخ ابن حنبل رفض أن يُنافق، وفيه العز بن عبد السلام باع الأمراء في السوق، لا تزال الأمة تُنجب علماء أحرارًا، لا يبيعون فتاواهم، ولا يقفون على أعتاب الملوك، بل على أبواب الله… ولكم مني كل تحية وسلام.
-عنوان مقالة الغد إن شاء الله:”سكوتٌ يُزكّي الظالم: خيانة الصمت في حضرة الجريمة”

* اللهم لا تجعل للهوى علينا سبيلًا، ولا للباطل في قلوبنا مدخلًا، واحقن دماء أمتنا
* مقالة رقم: (1958)
* 14. ذو القِعدة. 1446 هـ
* ألأثنين . 12.05.2025 م
باحترام: د. محمد طلال بدران (أبو صُهيب)

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إغلاق