مكتبة الأدب العربي و العالمي

حكاية_الطفلين_الجزء_الثالث_والاخير

بقي الطفلين شهرا مع دجيرة وكانت تحبهما وتصطاد لهما الفرائس الصغيرة وتطعمهما منها وبمرور الأيام زاد جمالهما لأن تلك الأرض مسحورة وكان علي يقول لأخته :لقد صرت بيضاء مثل الشمع وتفاحة تقول له: وأنت شعرك كلون الرمال الذهبية ولو رآنا أبونا فلن يعرفنا صمت الولد فجأة وأطرق برأسه فسألته أخته ما بك أراك حزينا

أجابها :الحياة هنا رائعة لكني أشتاق كثيرا لأبي ولدارنا
قالت الفتاة : وأنا أيضا أريد رؤية أبي إنه ليس سيئا وكل ما يحصل لنا هو بسبب تلك المرأة جارتنا والله لا أعرف ما الذي يعجبه فيها فهي تكبره في السن وبخيلة تقتر علينا وأنا أكرهها من اليوم الأوّل الذي رأيتها فيه

قال علي ما رأيك لو تتزوج دجيرة الجنية من أبي وتأتي للعيش معنا في الدار ؟
أجابته : يا ليت ذلك كان ممكنا فلا تنسى أنها ليست من جنسنا ثم عليه أن يطلق أولا تلك المرأة اللعينة

في هذه اللحظة أتت دجيرة وفي يدها أرنب رمادي اللون إصطادته وقالت لعلي :إنه حي وبإمكانك أن تربيه ويصير صديقك فجرى إليها وقبلها ثم قال لها: أريدك أن تأتي معنا لقريتنا، فلقد اشتقنا لدارنا

تعجبت الجنية من كلامه وسألته : وزوجة أبيك ؟
رد عليها :سنطردها في الشارع وأنت تزوجي من أبي فهو رجل لطيف ولا يستحق ما يحصل له فضحكت دجيرة وقالت في نفسها :جنية تتزوج من إنسي هل هذا ممكن لم أسمع بذلك من قبل

بدأ الطفلان يلحان على دجيرة بالعودة معهما وفي النّهاية وافقت فمنذ موت ولديها وهي تعيش وحيدة في كهف ولم تعد تهتم بنفسها أو زينتها فلتذهب إلى القرية فليس لها ما تخسره فجمعت صرة ملابسها وأخذت زادا للطريق من اللحم المجفف والكمأ والجذور ثم شرعوا بالمشي وكعادة البدو كانوا يرتحلون في الليل لكي لا تحرقهما الشّمس

وفي النّهار تنصب دجيرة خيمة صغيرة يستظلون تحتها وواصلوا السير في أرض الجن وكانت مليئة بالنباتات والطيور العجيبة التي لا توجد في باقي الصحاري

وفجأة شاهدوا ثلاثة جمال ترعى ولما إقتربوا منها صاحت تفاحة : إنها إبل التاجر ولا تزال الجرار على ظهورها ولما بحثوا عنه وجدوه قد مات وكذلك رفيقيه فدفنوهم وركبوا الجمال وصاروا يمشون ويأكلون من الزبيب والتين المجفف الذي أعجب طعمه الجنية وقالت لها تفاحة : أن في سوق القرية أشياء كثيرة تشتهيها النفس وحدثتها عن اللوز والفستق والشاي والحناء

في الطريق وجدوا الجمل الرابع وهو يحمل كيس دقيق وزيت زيتون ففرحت تفاحة وأشعلت الحطب وطبخت عصيدة فائحة الرائحة ووضعوا عليها الزبيب وأكلوها وقالت الجنية : لقد مللت من الحياة في ذلك الكهف وأكل الجذور وسبحان الله فنفس القافلة التي أتت بكما للصحراء هي التي ستحملنا لداركما لكن المشكلة أني لا أعرف أين تقع القرية

بعد أيام من السير وجدوا راعيا من البدو أرشدهم إلى الطريق وتعجب من شدّة جمال الإبل التي صارت خمرية اللون ممشوقة القوام أما الراكبون فكانوا يخفون وجوههم لكن عينا المرأة الخضراوين جعلته يسألها عن حالهم ومن أين جاءوا

هذا ما كان من أمر دجيرة والطفلين
أما النجار أبوهما فتوقف عن الذهاب لدكانه وشرع يبحث عنهما ولم يترك مكانا إلا ذهب إليه ولا شخصا إلا سأله حتى ساءت حالته وأهمل نفسه ولم يعد يحلق ذقنه ولا يعمل وبدأت زوجته تشعر بالقرف منه وقالت له : لماذا تفعل في نفسك هذا قريبا سألد ويكون لنا أطفال آخرون

لكنه لم يعبأ بها وفي النهاية جمعت ثيابها وذهبت لدار أبيها وطلبت الطلاق دون أن تشعر بالندم على ما فعلته في زوجها أما هو فتمدد على فراشه ينتظر أن يلحق بزوجته التي ماتت فلم يعد في حياته ما يدفعه للعيش في تلك اللحظة وصلت القافلة أمام دكان النجار

رأى الطفلان أن الدكان مغلق وحين سألا عن أبيهما قيل لهما أنه مريض منذ أيام ولا يفارق داره فأسرعا إلى الدار ولما فتحا الباب وجداه نائما وقد هزل بدنه وطالت لحيته فهمست تفاحة في أذنه: نحن هنا يا أبي ففتح عيناه ببطء وقال لها بصوت ضعيف :هذا أنت يا تفاحة ؟

أجابته :نعم يا أبي ومعي أخي علي وإمرأة تحبنا
قالت دجيرة للفتاة :إمسحي وجهه بالماء البارد لكي يفيق أما أنا سأطبخ له حساء من جذور النباتات بدأت الرائحة تفوح في البيت وأفاق الرجل شيئا فشيئا وأحس بالفرحة

لما عرف أنه لم يكن في حلم فلقد كان الطفلان أمامه وهما يحضنانه ويقبلانه بكل شوق نضج الحساء وأتته دجيرة بصحفة ،ولمّا وقفت تلك المرأة الجميلة أمامه بقي ينظر إلى وجهها
فقالت له: إسمي دجيرة و لقد بقي أطفالك عندى وإعتنيت بهما والآن :تناول طعامك ثم نم في فراشك وحين تستيقظ ستكون حالك أفضل فجعل يأكل وهو لا يكف عن النّظر إليها

فقالت إبنته: إطمئن يا أبي فستبقى معنا و سنقوم بترتيب البيت الذي صار في أسوأ حال إتكأ النجار وحاول النوم لكن المرأة أعجبته فتحامل على نفسه واستحم  ثم حلق لحيته الطويلة وتعطر وشعر بالنشاط يدب في جسده بعد ذلك لبس جلبابا نظيفا وخرج لوسط الدار

لما رأته دجيرة إبتسمت له أما هو فأحس بقلبه يخفق وقال لها لا أدري كيف أشكرك هيا قصي علي كيف تقابلت مع الأطفال فأخفت عليه حكاية أرض الجن وقالت له أنهما كانا وسط جرتين على ظهر جمل تائهين في الصحراء

فاعتنيت بهما وبعد أن درنا في كل مكان وجدنا القرية سألها لكن الطفلين تغيرا كثيرا أجابته: لقد وجدنا حشائش أكلنا منها فصار لونهم فاتحا وأنا أيضا و معنا إبل التّاجر لكنه فجأة وقف وتساءل من وضع الطفلين في جرار التاجر ؟

ثم قال: كنت متأكدا أن للأرملة دورا في ضياعهما لكني لم أجد دليلا ضدها وكانت فعلتها محبوكة و هو ما يدل على خبثها الحمد لله أن جعل لي أسبابا حتى تذهب تلك المرأة وأستعيد أطفالي

كان النجار ودجيرة يتحدثان وقد بدا عليهما الإنسجام كأنّهما يعرفان بعضهما من مدة طويلة لكن في تلك اللحظة سمع طرق على الباب ولما فتح ليرى من الطارق تعجب حين وجد تاجرين يتنافسان على شراء أربعة جمال باركة أمام داره

ولما سأل إبنته عن صاحبها أجابته: إنه التاجر ولقد مات ،ووجدناها في الصّحراء وحدها .وعلم من جيرانه أن ذلك الرّجل يعيش بمفرده ،ولقد إنقطعت عنهم أخباره منذ زمن طويل .

فقال: إذن الإبل صارت من حقي وباعها بثمن كبير لم يكن يحلم به وقال للطفلين سنوسع الدار بهذا المال ونشتري أثاثا جديدا وبضاعة للدكان من خشب ومسامير ورجع النجار للعمل بجد وصنع كل ما يلزم لداره وملأه بالنقوش الجميلة

وكانت الناس تمر وتعجب بشغل النجار البديع ويطلبون منه أن يصنع لهم مثله وزادت الطلبات حتى أنه إضطر إلى تشغيل عامل معه ثم إثنين ثم إكترى دكانا آخر وفاض المال عنده وصارت داره مثل القصر

وفي أحد الأيام رجع النجار ووجد دجيرة في أتم زينتها مثل القمر فطلب منها الزواج فقالت له على شرط فأنا وأطفالك نريد أن نأكل من عرق جبيننا قال  لها وماذا نويتم أن تفعلوا أخذته من يده إلى الدهليز أن يخفي العولة فوجد صندوقا كبيرا ولما رفع عنه الغطاء وجده مليئا بأرانب رمادية جميلة

فتعجب وقال من أين أتيتم بها أجابته لقد إصطدت واحدة لإبنك على فولدت وكثر صغارها وسنخرج للسوق مع طفليك لنبيع منها .

…… يوم الزواج حضر الجيران للأكل والشرب ورؤية زوجة النجار الجديدة وتعجبوا من حسنها ومحبّتها لأطفاله وابتهجوا كلهم فقد كان الرجل محبوبا من كل الناس وتألموا كثيرا لما سمعوا بما حل به مع المرأة السابقة التي تخلت عنه وهو في أمس الحاجة إليها ولم يكن أحد منهم يعلم ما فعلته بالطفلين وأنها سبب كل ما حصل له من حزن

وبينما إنهمك الضيوف في الأكل والشرب والمرح حط الطائر الملون على أحد شرفات الدار وحين رأى العروس دجيرة تحضن الطفلين الجميلين كأنها أمهما سقطت الدموع من عينيه ثم حرك رأسه بسعادة وقال :الحمد لله الآن إطمأن قلبي بعد ذلك طار في السماء وألقى نظرة أخيرة على الدار ثم اختفى عن الأنظار

ولما سمعت الأرملة بجمال امرأة النجار إغتاظت وقالت في نفسها: لقد تزوجني ذلك الرجل لأخدم أطفاله والله لن أدعه يفرح بعروسه ولا بطفليه اللئيمين وكل مرة أظن أني تخلصت منهما أجدهما أمامي مرة أخرى

حين إنصرف المدعوون من العرس جاءت في الليل وأشعلت عود حطب في ثم همت برميه من نافذة المطبخ لكن دجيرة شمت رائحتها وقالت لزوجها: إنتظرني قليلا وسآتي إليك ثم أخذت شكلها الحقيقي وظهرت أمام الجارة التي أحست بالرعب من منظرها القبيح وقالت لها :إياك أن تقتربي من النجار أو طفليه وإلا أكلت عينيك

فهربت المرأة وهي تصيح ثم رجعت دجيرة إلى الداخل وهي في أجمل صورة وسألها النجار :ألم تسمعي صياحا في الخارج
أجابته:لا تشغل بالك لعلها قطة جائعة وما يهمنا منها فاليوم ليلة عرسنا
أما تلك المرأة فحين طلع الصباح دارت في الحارة وحكت لكل للجيران عما ما شاهدته لكنهم سخروا منها ولم يعد يكلمها أحد .

بعد أيام خرجت دجيرة ومعها الطفلان إلى السوق وصاروا يبيعون الأرانب الرمادية وجاء الأشراف واشتروها ليضعوها في قصورهم فلم يكن هناك ألطف منها واصفى لونا

ومرت الأشهر وسمع ابن السلطان بتلك الأرانب الجميلة فنزل لسوق تلك القرية وأخذ يدور حتى رأى ولدا أشقر الشعر مع امرأة وفتاة تغطيان رأسيهما وأمامهم قفص فيه خمسة أرانب

فاقترب منهم، وقال :سأشتري واحدا لي وآخر لأختي ولما انحنت تفاحة على القفص سقط عن راسها الغطاء فتعجب الأمير من شدة بياضها وملاحتها وسألها عن اسمها ومن أين أتت لكنّها أرجعت غطائها ولم تجبه ثمّ جاءت أمها وأعطته ما يريد و رأى أنها جميلة كإبنتها وبقي ينظر إلى الفتاة من بعيد ثم رجع إلى القصر حزينا

ولما رأته أمّه لم يعجبها حاله و فقالت له ما بك ؟
أجابها : لا شيء يا أمي
ولما رأت أن الأرنب دائما في حضنه عرفت أنه عاشق وذات يوم قال لها عن الفتاة في السوق وأنه يحبها ولا يريد سواها،

فلمّا ذهبت لرؤيتها أعجبتها وعرفت أنها إبنة أكبر النجارين في المملكة وأبوها ذو مروءة وخلق ولم تر مانعا من أن تخطبها له فلا ينقصها شيء والملكة تفضل الفتاة الحاذقة على المدللة التي تربت في القصور .

جاء السلطان والحاشية في موكب عظيم للنجار وطلب خطبة تفاحة للأمير فوافق أبوها وكانت أخت الأمير أشواق جالسة تختلس النظر لعلي وهي متعجبة من لون شعره وعينيه فذهبت لأبيها وكلمته على ذلك الفتى فلم ير علي مانعا من خطبة الأميرة وبذلك يبقى دائما مع أخته

أما الأرملة فكانت تجيئ من بعيد تنظر لقصر النجار وتتحسر لما تعلم أنها هي التي كانت سببا في سعادته هو وأبناءه وكل ما عملته من شر صار خيرا له بإذن الله

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إغلاق