مكتبة الأدب العربي و العالمي

حكاية_المتشرد_النصف_الاخير

فعاد العجوز للجلوس وتدثّر بالبطانية التي احضرتها الفتاة.. ثم نظر الى كوب القهوة الفارغ وهو ملقى على الارض, فلام نفسه على تصرفه الفظ مع الطفلة والتفت الى الجهة التي اختفت فيها وكأنه يتمنى أن تعود لكنها لم تعد
وهكذا مضت الليلة دون عودة الفتاة….
وفي الليلة التالية انتظر العجوز طويلاً رؤية الفتاة..
لكنها لم تحضر , ولم يرها فطال انتظاره حتى تأخر الوقت فاستسلم العجوز للنوم اخيرا..
وفي عالم الرؤيا , شاهدها هناك.. تقف بالقرب منه في مكانها المعتاد.. لكنها كانت هذه المرة سعيدة, أسعد من أي وقتٍ مضى..
أراد أن يعتذر إليها عمّا بدر منه, لكنها فاجئته بأن فتحت فمها وقالت :يا عجوز.. لقد أصبحتُ الآن حرة.. الوداع أيها الرجل الطيب.. لن اُضايقك بعد الآن..
إستيقظ العجوز من نومه وهو يشعر بشيئٍ من الحسرة والذنب بسبب ما رأى..
فماذا تعني الفتاة بأنها قد أصبحت حرة ؟؟
وماذا تعني بالوداع ؟؟
هل حقاً لن يراها ثانيةً ؟؟
هل يتركها ترحل هكذا دون أن تعرف أنه آسف ونادم ؟؟….
فلما حل الصباح , قرر العجوز أن ينهض ويسير نحو المبنى البعيد ذي الطوابق الاربعة الذي أشارت إليه الفتاة, والذي تجلب له منه القهوة كل ليلة, لعله يراها هناك أو يعرف من يدلّه عليها..
وصل العجوز الى المبنى.. فاكتشف وبذهول أنه لم يكن سوى مستشفى..وهناك.. على سياج المستشفى.. شاهد صورتها..
صورة الفتاة الصغيرة التي كانت تزوره كل ليلة.. لكن الصورة كانت موضوعة في إطارٍ من الورود..
حارس المستشفى كان رجلاً كبيراً في السن أيضا.. وعندما شاهد المتشرد العجوز ينظر الى صورة الفتاة, إقترب منه وقال :لقد توفيت هذه الفتاة المسكينة الليلة الماضية..
إلتفت العجوز نحو الحارس وقال متأثراً مما سمع :
ماذا تقول ؟؟.. أوه كلا يا إلهي…
ثم أطرق العجوز أرضاً وقال :
لقد كانت تأتيني بالقهوة كل ليلة الى حيث أجلس في محطة القطار…
هنا قاطعه الحارس قائلا لكن ما تقوله مستحيل.. فهذه الفتاة كانت في غيبوبة, وهي ترقد هنا في المستشفى منذ شهر وجسدها موصول بأجهزة التنفس الحيوية لغرض إبقائها على قيد الحياة لأطول فترة ممكنة.. ولو حدث وتم نزعها عنها لكانت قد ماتت على الفور..
فكيف تدّعي أنت أنها كانت تخرج لتوافيك هناك في المحطة؟؟.. لابد أنك قد اشتبهت بفتاة أخرى يا رجل..
آنذاك.. تذكّر العجوز أمراً فقال :
هل لديكم ماكينة لتحضير القهوة في بهو المستشفى؟؟
رد الحارس :نعم لدينا..
أردف العجوز :فهل تعطلت ليلة الجمعة الماضية؟؟
أجاب الحارس :نعم قد حدث ذلك.. وقد قمنا بتوزيع الشاي بديلاً عن القهوة..
هنا تنهّد العجوز وقال :إذن فأنا لستُ بمخطئٍ أبدا.. إنها هي والله نفس الفتاة التي كانت تأتيني وتحضر لي المساعدات ..
قال الحارس :أنا أميل الى تصديقك يا رجل.. ولقد سمعتُ أنها كان من المفترض أن تموت أثناء الحادث الذي تعرضت له.. لكنها دخلت في غيبوبة واستمرت تناضل بشجاعة من أجل البقاء على قيد الحياة ولو عن طريق الاجهزة.. الى أن وافتها المنية ليلة الامس..
انحدرت الدموع على خدي العجوز وهو ينظر الى صورة الفتاة ويخاطبها بالقول لكن لماذا ؟؟.. لماذا كنت تساعديني وتبقيني على قيد الحياة؟؟
كنت تتشبثين بالحياة من أجلي أنا.. من أجل أن تخبريني بأمرٍ ما.. فما هو ذلك الشيئ بربكِ؟؟
هنا وضع الحارس يده برفق على كتف العجوز وقال :
أياً كان ذلك الشيئ, فأعتقد أن الفتاة قد نجحت في إبلاغك إياه.. لأنني رأيتها لحظة وفاتها , لقد رحلت عن الدنيا وهي مبتسمة, ربما لأنها شعرت بأنها قد وصلت الى ما كانت تصبر إليه في صراعها مع الموت..
وبينما هما على تلك الحالة, وإذا بزوج ابنته يصل الى المستشفى ويرى المتشرد العجوز فيهرع إليه ويقول :
عمي.. أرى أنك قد أتيت أخيراً لترى ابنتك.. لو تدري كم سيسعدها ذلك..
إلتفت إليه العجوز وسأله بانكسار :أهي في هذا المستشفى؟؟
رد عليه الشاب بالإيجاب, فواصل العجوز كلامه بالقول :
ما خطبها ؟؟ ما الذي تعاني منه؟؟
أطرق الشاب بحزن وهو يخبر العجوز بأنها تعاني من مرض السرطان ومن المحتمل أنه لم يتبقَ لها سوى بضعة أيامٍ كي تعيشها..
هنا شعر العجوز بالحزن الشديد فتكدرت حاله لكنه حتى هذه اللحظة لم يجد القوة أو الرغبة لدخول المستشفى ورؤية ابنته كونه ما يزال يحمل في نفسه شيئاً من عدم الرضا نحوها لأنها أقدمت على الزواج من هذا الشاب دون موافقته هو على ذلك..
ثم تذكّر العجوز أنه لم يوافق قبل ذلك على الكثير من الشباب الذين تقدموا لخطبتها , لأنه ببساطة كان أنانياً وقف في طريق سعادة ابنته حتى تبقى معه ولا ترحل عنه..
بعد ذلك.. لمح الشاب صورة الفتاة الصغيرة فتأسف لحالها وترحّم عليها , فسأله العجوز إن كان يعرفها , فرد الشاب :
لقد كانت تلك الفتاة ترقد مع ابنتك في نفس الغرفة الى أن وافاها الأجل ليلة الأمس.. ولقد كانت ابنتك تأتي الى سرير تلك الطفلة في كل ليلة فتجثم على ركبتيها وتبسط يديها على السرير وتدعو الله تعالى بدموعها الغزيرة أن يرحمهما معا..
لكن أكثر ما كانت تخشاه ابنتك وهي تدعو هو أن يأخذ الله أمانته وأنت أيها الأب العجوز لا تزال غير راضٍ عنها..
ولقد اخبرتني ابنتك إنها عندما كانت تدعو ليلة الأمس كالمعتاد على سرير تلك الطفلة وقبل وفاتها مباشرةً وإذا بالطفلة تحرك يدها فتضعها على كف ابنتك وكأنها تخبرها بأن دعائها قد استجيب..
أما أنا فأعتقد بذلك أيضا.. فها أنت ذا يا عمي هنا في هذا الصباح قرب المستشفى لترى ابنتك.. أليس كذلك؟؟
آنذاك.. إنهار العجوز بالبكاء وطلب من الشاب أن يأخذه ليرى ابنته الحبيبة.. فقد اشتاق كثيراً الى رؤيتها ولا صبر له على فراقها بعد الآن.. ولكي يعتذر إليها ويطلب منها أن تسامحه كونه أخطأ بحقها..
ولم ينسَ العجوز وهو يدخل المستشفى أن يحمل معه بعض الورود ليضعها على سرير الفتاة الراحلة إمتناناً منه نحوها لأنها كانت السبب في جمعه مع ابنته العليلة….. النهاية

عن حكايا زمان

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إغلاق