مكتبة الأدب العربي و العالمي

حكاية_المتشرد_النصف_الاول

كان في إحدى المدن الكبرى متشرد عجوز لا يجد ما يأكله وليس له مكانٌ يبيت فيه كان يجلس على رصيف محطة القطار طوال النهار مسنداً ظهره على مبنى المحطة, ملتحفاً ببطانية عتيقة ومتدثراً بالكثير من الملابس الرثة ليقي نفسه من برد الشتاء..
لم يكن يسأل أو يستجدي من أحدٍ قط.. بل كان بعض المارة يلقون له أحياناً ببعض القطع النقدية.. لكنه لم يكن ينظر إليهم أو يشكرهم على إحسانهم..
لم يتكلم العجوز مع أحد ولم يتشارك مع المتشردين الآخرين.. فكان وحيداً قليل الكلام والإهتمام, فكأنه قد يأس من هذه الدنيا وينتظر موته ورحيله عنها في كل يوم..
لا أحد كان يكترث به.. وهو أيضاً لم يكن يكترث لأحد..
كان المسافرون يمرون به ويتخطونه وكأنه غير موجود , لأنهم اختاروا أن لا يروه.. وكأنه حالة مشوهة أو قطعة قمامة يجب على المدينة التخلص منها.. لكن هذا الحال لم يزعج العجوز , لأن كل ما يريده هو أن يتركه الآخرون بسلام الى أن تنقضي مدته في الحياة..
وعند حلول الليل, كان يأمل أن تكون هذه هي ليلته الأخيرة.. لكنه كان يصحو في صباح اليوم التالي فيخيب أمله ويواصل عيش يومه مسنداً بإحباط ظهره على جدار مبنى محطة القطار..
وفي أحدى ليالي الشتاء وبينما كان العجوز يغلق عينيه ويسند رأسه على الجدار محاولاً التغلب على البرد الذي بدأ يتغلغل الى مفاصله, إذ فتح عينيه صدفة فشاهد فتاةً صغيرة تقف مقابله تنظر إليه..
كانت الفتاة جميلة ورقيقة.. تزين شعرها ظفيرتين, وتغطي رأسها بطاقية وتمسك دميتها الصغيرة بين أحضانها..
العجوز قدّر عمرها في الثامنة..
وقد إستغرب رؤيتها في هذا المكان وفي هذا الوقت من الليل..أغلق عينيه.. وعندما فتحهما مجددا , لم يرى الفتاة..
نظر يميناً ويسارا , لكنها لم تعد هناك..
أعاد العجوز إغلاق عينيه ثم آوى الى النوم وهو يعتقد أنه قد رأى حلماً أو أنه قد بدأ يصاب بالخرف بسبب تقدمه في العمر..
لكن في الليلة الثانية تكررت لدى العجوز رؤية تلك الفتاة مرةً أخرى..إنها هي ذات الفتاة وبنفس التفاصيل التي شاهدها عليها ليلة الأمس..إذن العجوز لم يكن يحلم ولم يُصب بالخرف.. هكذا أقنع المتشرد نفسه..
قال لها :أين والداكِ ؟؟
لم تتكلم الفتاة..
ماذا تفعلين هنا في هذا الوقت؟؟
سألها.. فلم تنطق أيضا..أأنتي ضائعة ؟؟
سألها مجددا.. لكنها هذه المرة هزت رأسها بالنفي..
فاضطجع العجوز وأغلق عينيه استعداداً للنوم وقال :
حسناً.. إن لم تكوني ضائعة فيجدر بكِ العودة للمنزل.. لايجدر بفتاةٍ صغيرة مثلكِ أن تتجول لوحدها في هذا الوقت من الليل وفي مثل تلك الاماكن..
ثم فتح إحدى عينيه لينظر إليها فلم يجدها..
وفي الليلة التالية.. عاد العجوز ليلتقي بالفتاة مرةً أخرى.. لكنها أحضرت إليه هذه المرة كوب قهوة ساخن قدمته إليه..
فتناوله العجوز منها دون أن ينطق ثم قام باحتسائه..
بقيت الفتاة واقفة تنظر إليه, لكنه كان يسند ظهره على الحائط كالعادة ينظر للأمام ولا ينظر إليها بانتظار أن تنصرف..
فلما وجد أنها لا تزال واقفة, فكّر أن أسرع طريقة لجعلها تختفي هي أن يغلق عينيه..
وفعلاً.. فعندما كان العجوز يغمض عينيه ثم يفتحهما , يجد أن الفتاة قد اختفت ولا تعاود الظهور أمامه لباقي الليلة..
وهكذا تكررت زيارات الفتاة للمتشرد العجوز كل ليلة.. وفي كل مرة كانت تحضر له كوب قهوة ساخن فيأخذه منها ولا يشكرها كعادته مع الجميع..
ثم تقف عنده لا تتكلم ولا تنصرف حتى يغمض عينيه..
وفي إحدى الليالي وكانت ليلة جمعة, أحضرت له الفتاة الكوب كعادتها فأخذه وتطلّع إليه فإذا هو شاي وليس قهوة فقال بسخرية :ماذا حدث؟؟ هل تعطلت ماكنة القهوة؟؟
هنا أومأت الفتاة رأسها بالإيجاب, فاستغرب العجوز وقال :
لكن من أين كنتي تأتين بالقهوة؟؟ فلا توجد هنا مكائن قريبة للقهوة..أشارت الفتاة الى مبنى بعيد مكوّن من أربعة طوابق فقال العجوز :لكن هذا المبنى بعيد , ومستحيل أن تظل القهوة ساخنة طوال طريق جلبكِ لها..
لم تتكلم الفتاة كعادتها.. فاستلقى العجوز وانصرف للنوم..
وفي الليلة التالية.. كان العجوز محتاراً في بطانيته, فهي اليوم ممزقة ولن تقيه البرد..
وهنا حضرت الفتاة, وإذا هيَ تحمل معها بطانية جديدة قدمتها للعجوز.. فأخذها وتدثر بها فشعر براحة أكبر بكثير مما كان يشعر به مع بطانيته السابقة..
أراد شكر الفتاة, لكنه أحجم عن قراره.. وبدلاً من ذلك, فقد تمدد وغط في النوم مهملاً الفتاة كعادته..
في الليلة التالية, وبينما كان العجوز ينتظر ظهور الفتاة ومعها كوب القهوة, وإذا بشاب يقترب منه ويحقق النظر فيه ثم يقول :أيها العجوز , أهذا أنت؟؟ إنه أنت فعلا.. لقد كنتُ أبحث عنك طوال الايام السابقة..
رفع العجوز رأسه إليه وقال :من أنت؟؟ وماذا تريد مني يا فتى؟؟
رد الشاب :
أنا زوج ابنتك.. هل تذكرها ؟؟ أم إنك قد نسيتها ؟؟
أشاح العجوز بنظره عن الشاب وقال :
إتركني وارحل يا فتى..
قال الشاب :
إنها مريضة للغاية, وهي ترقد حالياً في المستشفى….
قاطعه العجوز صارخا :
دعوني وشأني.. إتركوني لحالي.. ألا تفهمون؟؟
رد الشاب :
ألا تريد أن تعرف اسم المستشفى؟؟ إنها تريد أن تراك.
هنا نهض العجوز بعصبية ودفع الشاب عن طريقه وهو يصرخ به أن يرحل فابتعد الشاب, لكنه قبل أن يرحل التفت الى العجوز وقال إذ كنتَ ترغب بالموت فلماذا لا تُلقي بنفسك من عمارة أو جسر خيرٌ لك من أن تدفن نفسك في الحياة هكذا
ثم انصرف.. فجلس العجوز وهو في حالة مضطربة..
وبعد قليل حضرت الفتاة الصغيرة وهي تحمل كوب قهوة ساخن قدمته للعجوز مع ابتسامة فما كان من العجوز إلا أن حمل الكوب وألقاه بعيدا ثم التفت الى الفتاة وصرخ عليها بغضب :أتركيني لحالي لماذا لا تتركيني كي أموت بمفردي ؟ لماذا
فبكت الفتاة وتراجعت وهي مذعورة ثم ركضت مبتعدةً حتى اختفت
فعاد العجوز للجلوس وتدثّر بالبطانية التي احضرتها الفتاة.. ثم نظر الى كوب القهوة الفارغ وهو ملقى على الارض, فلام نفسه على تصرفه الفظ مع الطفلة والتفت الى الجهة التي اختفت فيها وكأنه يتمنى أن تعود لكنها لم تعد.
يتبع في النصف الأخير…

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إغلاق