مقالات
شهادة للتاريخ لشاعر الأمة محمد ثابت من ناقد الجيل محمد دحروج
محمد دحروج ناقد الجيل من كتاب هموم الثقافة دار أطلس للنشر
1 ـ إنّ الشاعر محمـد ثابت لم يكن عندي فى بداية الأمر سوى رجل لا
أعرفه ولا أميل إليه ، إذ كنت أجهل أمره، وكنت أرى الناس بالقاهرة بلا مثنويّة ككائنات تعيش حسب قانون المصلحة الخاصة ولو كان هـذا القانون من أسباب إفساد حياة الناس مهما كانت قيمة هؤلاء الناس ، فلمّا عرفته، وبلوته؛ اتخذته أخًا فى الله لم أر له شبيهًا بالقطر المصريّ فى عالم الثقافة الأول .
وأريـد بالعالم الأول هـذه الطبقة التي ظهرت مع التسعينيّات من قبل أن تموج الثقـافـة بالأدعياء الذين أتوا مع عهد النشر الإليكترونيّ وثقـافـة الصالونات التي ظهرت بعد الثورة المصريّة عام 2011 .
إنّ محمـد ثابت رجل عـرف قـدره واحترم كفـاحه وما كان له من صيت وشهرة بالقاهرة بالعقدين الماضيين؛ فلما هجمت جحافل التافهين والسذج؛ اعتزل الحياة راضيًا غير ساخط .
وكل هذا لا يدعوني إلى أن أجعله ممن أثروا في حياتي في مرحلتها الثانية وإنما تجيء حقيقـة الـرجل عنـدي مـن كـونه رفـض باطـل الحياة وما زال يتخلص من أوشابها حتى إذا ما صارت صداقتنا فى ذورة درجات الإخاء؛ نظرت إليه فوجدت إنساناً صادقاً فى كل شيء ؛ لا تستخفه الأضواء فقـد سئم منها ولا يلهث خلف المال فلو أراد أن يحصّله لفعل؛ وقد كان صديقاً لمشاهير القوم فى الفنّ والأدب والسياسة فى العقد الأخير من القرن الماضي، أيام أن كانت العلاقات محدودة والوصول إلَى القامات ليس بالأمر السهل ولا الممكن ؛ غير أنّ الرجل علم أنّ الله هو الحقيقة الكبرى في هـذا الوجود بل الحقيقـة الـوحيـدة الثابتة ؛ فلـمّا رفض هـذه الدنيا رفضها من دون أن يتعلّق بأيّ سبب من الأسباب التي قـد تبقى بالنفس عالقة .
إنّ مواقف ثابت ستظل بخاطري لتؤكد على طول المدى أنّ الخير في هـذه الأمّة ما بقيت ، ولقـد قيّدت كثيرًا من ذلك فى غير هـذا الموضع؛ غير أني أقتصر ها هنا على موقفٍ واحدٍ، وقع بالعام الأوّل من تاريخ هـذه الصداقة؛ فإني كنت أضعتُ ما بيدي من مال قليل بعد أشهر قليلة من مكوثي بالقاهرة ولم أكـن أعـرف كيف سأبـدأ ولم تكن لي خطة مرسومة من قبل المجيء ؛ فبقيت مـدّة أعيش على الكـفـاف لا أخبر أحـدًا بأمـري ؛ حتى إذا ما بلغ السيل الزُّبَى هاتفته أن يبحث لي عـن عمل ؛ فلمّا وقف على حقيقة أمري عرض عليّ مالاً ـ وثابت رجل مستور ليس بالفقير ولا هو بالغنيّ ـ فـرفضت ذلك، وقلت له : هـذه طريقة تجر شيئاً فشيئاً إلى أن يخسر الرجل إباءه ثم يخسر أصـدقاءه وأنا أكـره هـذه الطريقة فى المؤازرة ، فصمت الرجل ، ثم قال : لا حول ولا قوة إلا بالله، انتظر خيرًا بإذن الله .
وبعـد يوميـن هاتفني ثـابت وطلب مني أن أنـزل إليه من مسكني لأقابله بمكان قريب من اتحاد الكتاب؛ فذهبت إليه فأعطاني عملاً أقوم به، وقال إن فعلت فلك كذا وأنا أُمهلك شهرًا ؛ فمكثت مع هـذا العمل أسبوعًا حتى أتممته ، فلما أخبرته ؛ قابلني فى اليوم الثاني وأخذت حقّي ، وهو مبلغ كان يكفيني يومئذٍ لشهرٍ أو اثنين ؛ ثـم ذهـبت معـه للغـداء فى مطـعم مـن المطاعم، فلما فرغنا من أمر الطعام قمت لأدفع الحساب فأمسكني من يدي ثم قال مبتسمًا : أظننت أني أدفع لك حقّ عملك لتطعمني منه ؟!
فقلت له : إذن فالمبناصفة ؛ لأني لا أحبّ إعناتك ؛ فضحك وقام فدفع الحساب جميعه ؛ فلما قمت معه لأنصرف ، شكرته ودعوت الله له، فقال لي كلمة ما زلت أذكرها (( إنّ قادة الثقافة خونة لا يعنيهم من الحياة سوى أنفسهم وإنّي أرى أني أكون خائناً إن رأيت لك مخرجًا فخذلتك طالما أنك لا تريد أن تعيش إلا باحترامك )) .
وتمر الأيام وتفتح الدنيا رويدًا رويدًا والعميد علي مصطفى يختزن لي كل ما أجمع من عملي من مال، وثابت يتابع ذلك فى سعادة غامرة، حتى إذا ما أصبحتُ فى غناء عن كل أحدٍ ؛ لي بيت ومال وتجارة صغيرة أديرها ، قابلني ثابت فى ذات يوم ، فجلسنا نتحدّث؛ وكان يعلم محنتي من أوّلها إلى آخرها، قال لي : أتذكر يوم عرفتك كيف كانت محنتك ؟ ؛ فقلت له : نعم، ويكأنك تريد أن تقول لي :
(( لقـد ارتقيت مرتقىً صعباً يا ابن رباح ! ))
فضحك ملء فمه ـ حفظه الله ـ وقال : نعم ، هو هـذا !
فقلت له : لا ؛ بل قُل :
(( وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ ؛ وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الأَرْضِ )) [ القصص : 5 ـ 6 ] .
محمد دحروج ناقد الجيل
من كتاب هموم الثقافة
دار أطلس للنشر