مقالات

في غيابة الجب ..رياض الصالح

تكلمني يا صديقي بمستوىً عالٍ من الوعي والإدراك ثم تنبهني متسائلاً بعد ذلك عن كيفية امتلاكك لهذا الوعي وأنت لم تلتحق في حياتك بجامعة ولم تكن متفوقاً في سنين الدراسة .. وكأنك تريدني أن أبرر لك تقصيرك في تلك المرحلة التي مضت وأبعث في نفسك بعض العجب أو الغرور وقد وصلت إلى هذه المرحلة التي تبعث في نفسي الإعجاب ..
صدقني يا عزيزي أن امتلاك الوعي لا يتعلق بالدراسة الأكاديمية مثل ما يتعلق بالذكاء الفطري.. فالمسألة في نظري تشبه عملية التنقيب عن بئرٍ ارتوازيٍّ عميق في بقعة أرضٍ مليئة بالتراب أو الرمال .. إذا مرَّ شخصٌ بهذه الأرض فلن يتبادر إلى ذهنه وجود هذا الكمّ الهائل من الماء تحت طبقاته، ولو طُلِبَ منه الاستفادة من الأرض وبذل المجهود فلن يتجاوز فلاحتها أو زرعها من أجل الحصاد ويبقى ما تحت الأرض مجهولاً له بقدر افتخاره بما جدّ وتعبَ من أجل الاستفادة من هذه الأرض التي كانت بوراً ..
هذا يشبه يا صديقي حال الكثيرين من الذين ساروا على درب تقليد الناجحين، وكلّفوا أنفسهم واهتمامهم برعاية السطح والاستفادة منه قدر الإمكان مقارنين أنفسهم بالكثيرين من الكسالى الذين لم يكلفوا أنفسهم بالالتفات لتلك الأرض عدا عن العمل بها ..
لكن هنالك فئة أخرى ساقتها الأقدار لحفر الأرض رغماً عنها .. منها من كانت تعمل فيها وتفعل كما فعل المذكورون في الأعلى إلا أنهم اصطدموا بعقبةٍ مفاجئة جعلتهم يحفرون حولها حتى أدمنوا الحفر ووصلوا الماء .. وآخرون مروا بالأرض فضولاً أو مرور الكرام بعد انقطاع السبل لديهم من أجل إصلاحها فتعثروا بالعقبات وسقطوا أرضاً ثم لامسوا ترابها المستفزَّ للهمم فحفروه وازدادوا حفراً بلا أملٍ في شيء حتى وصلوا تلك المياه ..
أجل يا عزيزي .. فسر الوعي كله يكمن في العقبات أو الصدمات .. وليس الجميع لديهم حساسية الصدمة ولا الرغبة في تحمّل تكاليف الحفر ولا القدرة على ذلك .. لذلك لا تستغرب من قلة أولئك الواعين ولا تقلل من جهودهم العقلية أبداً ولا تستهزئ بما يتركه التعب من آثارٍ على الوجوه وفي النفوس .. يكفيهم ما يلاقونه من صدٍّ وهجرانٍ فهم أهل العمق يا صديقي ..
ذكرت لك مسبقاً أن العقول تشبه العضلات .. وكم أوقفني كثيراً عن الكلام ملاحظتي للمستمع وقد أخذه التثاؤب المتكرر، مع قدرتي على شد انتباهه وعلمي بأنه لا يعاني من الملل، لكنه دماغه الذي بدأ بطلب كمية ضخمة من الأكسجين لتمريرها في هذه العضلة التي لم تتعود على هذا الكمّ من بذل الجهد في التركيز والفهم .. لا تستغرب يا صديقي بعد ذلك من فرار الكثيرين عند وقوفهم أمام تحليلٍ عميقٍ أو مناقشةٍ مفيدة أو معلومةٍ مهمّه، فليس الأمر زهداً بها بقدر صعوبة التركيز لعقول لم تتعود على التفكير والملاحظة ..
ولا تشكُ لي حبك للعزلة وانقطاعك بالوحدة ، ولا ميولك للحزن، ولا اتقانك للصمت، لا تسألني عن رغبتك الجامحة بالتمرد على التيار أو ثورتك الوجوديّة وملاحظاتك الدقيقة، ثم لا تستثر عواطفي لندرة أصدقائك وضيق نفسك كلما دعتك الحياة للاختلاط بالغير ومجالستهم .. فكلنا في الهمّ شرقٌ يا عزيزي .. رماديّة لونها تلك البئر التي غرقنا فيها وتنفسنا بها يا صديقي .. لتمنحنا عيوناً جديدةً ناصعةً جداً، تطلّ على الحياة فتشاهد كل الألوان فيها على حقيقتها بلا غبارٍ ولا خداعٍ ولا مواربه ..
لكننّي أشفق على الآخرين كلما نظرت إلى حالك يا صديقي وتذكرت كيف كانت ضحكتك تملأ الفضاء قبل تعرفك عليّ، وأقول في نفسي ليته يتركني ليهنأ، فيصدمني شكرك المتواصل على ما صرت إليه .. فأتعجّب ..

# بقلمي
# رياض الصالح

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إغلاق