مقالات
واقعية.. رياض الصالح
أعلم يا عزيزتي أني أصبحت مملاً جداً بالنسبة لك .. تتضايقين دوماً من سوداويتي وتشاؤمي في نظرتي لأمور الحياة المختلفة .. أصارحك حقيقة بأني لست من معشر المتفائلين ولا أؤمن بفلسفة النظرة الإيجابية .. وأعلم أن الضيق الذي يختلج نفسي ونفسيتي ناتج عن تبنّي مثل هذه المعتقدات .. ف ” ما أضيق العيش لولا فسحة الأمل ” ..
تذكرت قبل مدة كلمات الشاعر إبراهيم طوقان وهو يخاطب المتشائمين .. رنت تلك الكلمات في أذني ومرت على خاطري بأنغامها التي طالما تشدقت بها في المجالس ..
أفنيت يا مسكين عمرك بالتأوه والحزن
وقعدت مكتوف اليدين تقول حاربني الزمن
ما لم تقم بالعبء أنت فمن يقوم به إذن
كم قلت أمراض البلاد وأنت من أمراضها
والشؤم علتها فهل فتشت عن أعراضها
يا من حملت الفأس تهدمها على أنقاضها
أقعد فما أنت الذي يسعى إلى إنهاضها
بصراحة يا عزيزتي .. لم أفكر حينها بإبراهيم طوقان وما جادت به قريحته وأفكاره التي ضجت بها الجموع كثيراً عبر السنين الطوال .. ولكني أشفقت على تلك النكرة التي قصدها شاعرنا بالنقد والعتاب .. كنت أتمنى أن أعرف وجهة نظرها اليوم وقد ثبت أن تشاؤمها حينذاك وقبل عشرات السنين كان ضرباً من الحقيقة .. ونظرة ثاقبة تجاوزت عتبات الزمن .. وإذا بذلك الشؤم في حينه كان تحليلاً لواقع مرٍّ ولفت نظر لأمراض متغافَلٍ عنها، لن يمتلك الصادق غير نثر الحقيقة مهما كانت صعبة ومرة كالعلقم، وليس من جهة التشاؤم أو التفاؤل ..ولا من أجل تثبيط الهمم أو إلهاب حماستها.. ما كان المقصد سوى رصدٍ موضوعيٍّ واقعيٍّ لتجنّب الكارثة التي أتت بعد بضعة سنين .. لتصنع قضيّةً مقدسةً تشعل الشرق الأوسط لقرون عديدة، فيستطيع الجلاد سرقة الثروات ونهب الكنوز وتجنيد العبيد، واستقطاب المصفقين.. ويحرص بشدة على إذكاء النار بإضافة الحطب ثم التحكم بشدّتها وقوة اشتعالها حتى لا تنطفيء فتضيع المصلحة التي يسعى بها لتحقيق أحلامه المنشودة وأحلامنا الموؤدة ..
لا زلنا كما نحن يا عزيزتي .. نتشدق بما يشبه الأمل .. ونحيّد من يصارح بالحقيقة متهمين إياه بالشؤم ونذر السوء.. ثم نتهافت بضراوة إلى الناقدين لذواتهم من أعدائنا لنحمل كلماتهم إثباتاً على صوابية أفعالنا .. مهملين أي كلمة نقد أو مراجعة ذاتية ونغلق دونها الأبواب ونصم لها الآذان.. ونقطع اليد التي تشيرُ إلى الجروح وذلك اللسان الذي يصرخ .. فلا يبقى إلا الأصوات الناعمة الحالمة .. لتدغدغ نفوسنا الراقدة في سباتها العميق تحلم بمستقبل سرابيٍّ مزهر وتتابع برامج صباح الخير ..
سيصل بنا الحال يا عزيزتي إلى تقبّل أي حلٍّ يقودنا إليه تفاؤلنا وتبرره لنا أعذارنا .. فقد اعتدنا على التفاؤل التبريري دوماً وتقبل الموجود مهما كان شكله قبيحاً .. فانتظار الأقدار بعد ذلك لتصنع لنا أحلامنا هو خير وسيلة .. ألم تسق تلك الأقدار ذلك الأمير الغني لسندريلا المظلومة الصابرة المتفائلة .. ألم ينقلب الوحش أميراً جميلاً بعد وقوع تلك الجميلة في غرامه .. ألم يتحمل الزنوج أربعمائة عام تقريباً من الإذلال والعبودية يحدوهم الأمل ويقودهم التفاؤل حتى صار واحداً منهم بعد ذلك رئيساً للولايات المتحدة .. ألم يتحمل مانديلا السجن سبعة وعشرين عاماً حتى ابتكر نظرية التعايش المزدوج في حكم البلاد بين العرقين الأبيض والأسود .. هكذا يصنع التفاؤل بنظرهم .. غاضين الطرف عن الجلاد وهو ينسج الخيوط، وينسّق الحلول، ويحرّك بيادق الشطرنج، ويفصّل النماذج التي تلائم مقاسه ومصالحه .. ليصنع نوعاً من تقبّل الواقع الظالم ويصنع الأفكار التفاؤلية لنا والتي تتعايش مع أي ظرف وتعشق انتظار فتات كرمه .. فليس في ذلك بأس يا عزيزتي .. طالما يحقق له أحلامه .. ويحقق للآخرين سراباً مماثلاً لأحلامهم ..
# بقلمي
# رياض الصالح