مقالات

” حضور ماتيلدا الساطع في جلسة حميمة مع صديقة الصبا لورانس “

الفنان مرسيل خليفة

ودخلت في حيّها من بوابة الساحة ويدخل معي الزمان القديم .
ماض على الحاضر يُطِلْ ، والتّحايا وعبارات المساء الجميل تُسابق خَطوي . ليلٌ الساحة يغمره السكون واتذكر الدكتور اسكندر وعجزه الدائم عن حماية حرمة جدار السينما الذي يملكها من غارات المتبولّين ، وكم كنت اعجب لذلك الكرّ والفرّ بين السكارى القاصدين خمّارة ” ليشاع ” والذاهبين الى الصلاة في كنيسة السيدة وتستقيم الجدليّة بين الخمرة والركعة . الكل يتعايش في هذا المكان . فيه المذاق العذب للفراغ المطرّز بالكلام المعتّق في جرار اللسان ، نكهة الحيّ المخثّر في خابيات النسوة يرتلنه ، فيه سحر الأسرار ، وفيه التعايش بين الطبقات الذي لا ينتهي بين الممكن والمستحيل . هو الحيّ الذي اجتمع فيه الناس لمساندة مرشّح البلدة في الانتخابات . هو للجميع من غير ميّزٍ وحَيْف . كل شيء هنا في حيّه – بمقدار : التكسّب والتبتّل والتأمل والتحمّل والتجمّل والتجارة . وكل شيء هنا يُستعار : التقوى والنجوى .والبلوى .
اليوم يستوطن الجائين اليه على بلاط ساحة ” الجيش ” الباردة وعلى جميل ذكرى ساحة البلدة السلام .
غمرتني لورانس صديقة امي منذ طفولة تلك الأيام الصادحة ، غمرتني في حضنها كشمعة تبطىء نهايتها من اجل أن تضيء هذا اللقاء . إمرأة في التسعين من عمر سريع لا تنسى أول الحب في عينيها ، ومرآة في صدر دارها لا تغيّر ملامح وجهها الصبوح . الوفاء ساعة حائط قديمة لا تُخطىء الموعد . إمرأة مشرقة على الحياة تنظّم كثرة العواطف في شرنقتها . والحب عندها وفاء ابديّ .
ماتيلدا ولورانس في مدرسة الراهبات ، في مسرحية يوسف الحسن ، في الصداقة والصّدق وفي القلب .
هُنّ في المعنى توأمان .
هُنّ نداء الروح في زمن جميل .
وعلى عبق ريحة البن من فنجان القهوة تقول لورانس : يأخذني فَرَاغَ الروح الى الصمت ، يسلمني الى رغبة في الانكفاء . منذ رحلت ” ماتيل ” اكفهر الوجدان وارتفع منسوب الحزن في العينين . ما كانت صديقة فحسب ولا قطعة من شجر الكيان ، بين شفتيها اعذب ابتسامة ، عندها كنّا نجد الأمان .
عن ماتيلدا تقلّب لورانس كتاب الذكريات علّ فيه ما يدلّ على رنين معدنها . تروي لورانس موجعةً أمي . صوتها رطباً واغالب أمامها الدمعتين : لم احسبها نظرة الوداع الأخيرة حين استلقت على سرير مصحّة المعبور وغابت واغتسل المكان بدموع القلب المسفوحة .
كبرت وماتيلدا على طريق الطفولة وتجلّى لنا من الأشياء ما تجلّى .
ماتيلدا قمرٌ يهلّ على ليل طفولتنا . لم تكن لي صديقة ورفيقة بالصدفة ، نداء ما بعيد دوّى في أيامنا فكتب صكّ صداقتنا على ارواحنا ، وأرخى جدائل سرّه في بئر قلبين . ما كنّا إثنين ، حلقنا بجناحين بين بيتين .
ماتيلدا إمرأة جموحة في الحب ، واقتسمنا ما لدينا من ينابيع الفطرة . في ماتيلدا وداعة الام والأريحيّة ، وفيها بعض ما في اسعد والدها من الحزم . ولماتيلدا اطوارها ، لها من الطيبة ما لا ترتله كلمات ، ولها من الصرامة قسط كبير . ماتيلدا تسكنني ، والى المعارج ذكراها ترفعني . للأمومة عندها مرتبة لا ينازعها نصاب .
هي سادنة الحياة ورحيق القلب
هي الكينونة التي لا تنتهي
هي وحدها تجثو امام هيبتها مفردات الحب …
تركت لورانس بعد جلسة حنونة في وحدتها وعدت الى البيت مع دمعة سفحتها على شالي .
أُمِّي قِبلتي وقُبلتي .
وأنتِ لورانس مثل أمي – أوّل الحب …

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إغلاق