مكتبة الأدب العربي و العالمي
قصة #الغابة_المسحورة _ النصف الاول
كان العمدة وزوجته وابنهما نبيل يعيشون معا في بيت كبير يقع قرب الحقول في القرية. وقد كبرت سن العمدة وزوجته، وأرادا أن يتزوج ابنهما، كي يفرحا به. ونصحا له بأن يختار ابنة عمدة من أصدقاء الأسرة. وقد عرف نبيل ابن العمدة بالشجاعة والإقدام والفروسية وإجادة ركوب الخيل، وأحبه سكان القرية؛ لعطفه عليهم، وحبه لهم. وكذلك مساعدتهم فيما يحتاجون إليه من الأعمال، ورجوا الله أن يتزوج، ويحل محل أبيه، ليطمئن عليه أبوه في حياته. وذات يوم قال له أبوه: ابني العزيز، لقد أتى الوقت الذي ينبغي أن تتزوج فيه. وإني أرى أن تتزوج ابنة الشيخ مصطفى صديقي، وهو عمدة لإحدى القرى وأستحسن أن أرسل إلى أبيها لأخطب لك ابنته. لأني أعلم أنها كريمة الخلق، متعلمة، وقد ربيت تربية كاملة، ولا ينقصها شيء مطلقاً. قال نبيل لأبيه، إني لا أعرف ابنة صديقك العمدة، ولم أرها. وأرجو أن تسمح لي يا أبي بأن أغير مظهري وملابسي، وأخفي شخصيتي، وأذهب إلى قريته. وأجتهد حتى أرى تلك الفتاة، من غير أن تعرف هي حقيقتي وشخصيتي. ولكن العمدة خاف أن يذهب ابنه وحده. وعرض عليه أن يرسل معه أحداً من أقاربه أو أصدقائه، أو حارساً قوياً من حراس القرية. كان نبيل قوى الجسم، معروفاً بالشجاعة، حسن الحيلة، فطمأن أباه، حتى سمح له بالذهاب وحده في رحلته. وقال له: اذهب يا بني، وسأؤجل التكلم في موضوع الخطبة حتى ترى خطيبتك بنفسك، وترجع من رحلتك. وأرجو ألا يطول غيابك. اذهب وسلم على والدتك، وودعها قبل ذهابك، واطلب منها أن تدعو لك بالتوفيق في حياتك. اذهب وأعد نفسك، والله معك. ولا تضع وقتاً. وفى الصباح التالي استيقظ نبيل مبكراً في الفجر، واستعد استعداداً تاماً لرحلته، وقد لبس حلة (بدلة) قديمة ممزقة، رمادية اللون. وترك حصانه، ولم يأخذ معه شيئاً من النقود الذهبية. واكتفى بأخذ عصا غليظة يتوكأ (يستند) عليها في الطرق الصعبة، ولم يحمل معه في رحلته غير هذه العصا.
رآه أبواه وهو لابس بدلته الممزقة، فضحكا، ونصحا له أن يلبس أحسن ملابسه. حتى يظهر في أحسن مظهر حينما يرى الفتاة التي يريد أن يخطبها، ويجعلها عروسا له. فقال لهما: إن الفتاة التي أريد أن أتزوجها يجب أن تحبني وأنا لابس خرقاً قديمة. وإن الفتاة التي لا تحبني إلا إذا لبست أحسن الملابس وأغلاها لا أعد حبها لي حباً صادقاً. إني أريد أن تشاركني في فقرى، قبل أن تشاركني في غناي.
الابن الوحيد لهما. وهذه هي المرة الأولى التي سمحا له فيها بالسفر وحده، من غير وجود رفيق أو خادم معه. وهذه هي المرة الأولى التي أحس فيها بالحرية في حياته. وحينما ارتفعت الشمس في السماء كان نبيل بعيداً عن قريته. استمر يمشى في طريقه؛ حتى رأى راعياً كبير السن يرعى قطيعاً من الغنم. وهو جالس في الظل تحت شجرة كبيرة، ليتناول طعامه. فذهب إليه نبيل، وسلم عليه، فدعاه الراعي ليأكل معه، فشاركه نبيل في غذائه اليسير، شاكراً له دعوته. لم يعرف الراعي نبيل من قبل، ولم يعرفه نبيل بنفسه. ولكنه أخبر الراعي بأنه في رحلة خاصة؛ ليبحث عن خطيبة تكون عروساً وزوجاً له في مستقبله. فحذره الراعي من ساحر خطر شرير يعيش في غابة مسحورة سوداء، قريبة من الجبل. وقد لحظ نبيل أن الراعي حزين، والحزن ظاهر على وجهه، فسأله: لماذا أراك حزيناً؟ أرجو أن تذكر لي ما تعرفه عن ذلك الساحر، وألا يكون قد أصابك منه ضرر.
هز الراعي رأسه بحزن، وقال: كنت في يوم من الأيام شاباً مثلك، كثير الآمال. وأحببت من قريتي فتاة كاملة جميلة الصوت تسمى لطيفة. وفى اليوم المحدد لزواجنا اضطررت أن أذهب إلى الحقل لأحضر قطيع الغنم إلى حظيرتها (زريبتها) التي تفع خلف البيت في قريتنا. فلما رجعت في المساء وجدت أن عروسي لطيفة خطفت، وأخفيت في الغابة المسحورة. وقد خطفها ذلك الساحر المؤذي. وكل ما عرفته من الناس الذين شاهدوا الحادث، أن لطيفة كانت تغنى بصوتها العذب الجميل على سطح بيتها. فحدثت زوبعة شديدة وانقض الساحر وسط الزوبعة، وخطف عروسي، وطار بها في الجو، ثم اختبأ فوق أطراف الأشجار. وقد سمع الناس صوت لطيفة، وهي تصرخ وتستغيث، وتطلب المساعدة. ولكن لم يستطع أحد أن يصل إليها أو يساعدها، أو يخلصها من يدي ذلك الساحر المجرم. وكانت سني في ذلك الوقت عشرين سنة، وقد زدت الآن على الستين. ومكثت أكثر من أربعين سنة أنتظرها، وأنتظر رجوعها. وأعتقد أنها لن ترجع. ولم أفكر في تلك المدة الطويلة أن أنزوج غيرها. وسأستمر مخلصاً لها طول حياتي. وإني متأكد مما أقول. تألم نبيل لألم الراعي الكبير السن، وشاركه حزنه وشعوره، وأعجب بوفائه النادر. ولكنه لم يفهم السبب في عدم محاولته البحث عن عروسه التي خطفت، حتى يجدها. فسأله برفق: هل حاولت أن تنقذها من الغابة المسحورة؟ أجاب الراعي الهرم (الكبير السن): أيها الشاب العزيز، إن الغابة المسحورة هي الغابة السوداء، وهي في مكان خطر. ولا يستطيع أحد أن يدخل تلك الغابة. وإذا دخلها إنسان فلن يخرج منها سليماً، إلا إذا كان ساحرا ماهرا شجاعا. ولم تخطف عروسي وحدها، بل خطفت أيضا بعدها الآنسة أمينة بنت عمدة قريتنا بالطريقة نفسها. وقد خطفها ذلك الساحر الشرير، وحملها كما حمل عروسي إلى الغابة السوداء. ألم تسمع تلك الحادثة المحزنة؟
ينتظر الراعي الإجابة عن سؤاله. واستمر في تكملة القصة قائلا: إن الآنسة أمينة كانت معروفة في قريتنا بالجمال، وكمال الخلق، والعطف على فقراء القرية والمحتاجين فيها. ولم ترد فقيرة تذهب إليها في بيتها من غير أن تساعدها وتعطيها ما تحتاج إليه. وفي ليلة قمرية من الليالي كان في بيت عمدتنا حفل عيد ميلاد لابنته الوحيدة أمينة. فدخل الساحر بيت العمدة مختبئاً في مظهره مع المدعوين من الأقارب، ولم يحس به أحد. وكان الجميع معجبين بالآنسة أمينة. وفجأة حدثت زوبعة شديدة داخل البيت، فاضطرب الحاضرون، وشغلوا بالزوبعة، وتغيرت صورة الساحر. واختفت بنت العمدة، وحملها الساحر، وطار بها في السماء، وأخذها إلى غابته المسحورة. وحار الجميع في الأمر، وعجبوا كل العجب، ولم يروا أمامهم إلا سحبا كثيفة سوداء. ولم يعرفوا ماذا يفعلون. وقد حدثت ضجة في القرية. وانتشر الخبر فيها سريعاً، وجرى العمدة وأقاربه ومن عنده من الحرس. وخرج كثيرون من القرية للبحث عن الفتاة المحبوبة التي خطفها الساحر، وخاطروا بحياتهم لإنقاذها، وإعادتها إلى أهلها. ووصلوا إلى مدخل الغابة، ومعهم أسلحتهم، ولكنهم لم يستطيعوا أن يفعلوا شيئا، ورجعوا جميعا مهزومين. ولم يمكنهم أن يتغلبوا على ذلك الساحر الشيطان، فقد قوبلوا عند وصولهم بزوبعة فظيعة، فتفرقوا، وتاه بعضهم. ورجعوا بدونها إلى القرية بعد أيام، ولم يتمكنوا من دخول الغابة السوداء. وعادوا أقل عددا مما ذهبوا. تألم نبيل كل الألم، واغتاظ كل الغيظ، واحمرت عيناه، بعد أن سمع تلك القصة، ونسي كل شيء عن العروس التي فكر في أن يتزوجها، وأخذ عصاه الغليظة، وقام للبحث عن الفتاتين المخطوفين في الغابة المسحورة. فصاح الراعي، وقال له: لا، لا أيها الشاب، لا تحاول أن تدخل تلك الغابة السوداء. وأمسك بنبيل من يديه، وحاول أن يمنعه من الذهاب إلى الغابة، ويرجعه عن قصده، ولكنه لم ينجح في إقناعه ومنعه. وسأله نبيل: كيف أعرف مدخل الغابة السوداء؟
أجابه الراعي: إن عند مدخل الغابة ثلاثة من الطيور الكبيرة البيضاء، تحرس الباب، وتطير حوله، وتراقب كل من يحوم حول الغابة، أو يقترب منها. فإذا رأت أحدا غريبا أخبرت الساحر في الحال، ويظن بعض الناس أن تلك الطيور هي التي تعمل الزوابع والعواصف بأجنحتها إذا أراد الساحر. فاتعظ يا بني، واستمع النصيحة، وابتعد عن ذلك المكان الخطر؛ فلن تسمح لك الطيور الثلاثة بالدخول. تألم نبيل مما سمع، وإجابة عن هذه النصيحة، طلع فوق الشجرة، وقطع فرعا منها، وصنع منه بالسكين الذي في جيبه قوساً وسهماً، ليدافع بهما عن نفسه، وقال للراعي: لا تخف علي، وانتظر كل يوم رجوعي إليك. وتأكد أني سأحضر لك معي عروسك التي خطفت، أو أخباراً عنها على الأقل، إذا رجعت ثانية. حزن الراعي لفراق نبيل، وخاف عليه، ودعا له بالنجاح في مغامرته، وودعه نبيل، وسار في طريقه إلى الغابة السوداء. واستمر في سيره حتى رآها عن بعد. ورأى الطيور الثلاثة الكبيرة البيضاء تطير فوق مدخل الغابة، وسمع حركة أجنحتها كأنها صوت رياح شديدة، أو مياه كثيرة متدفقة. رأته الطيور الكبيرة البيضاء، وهي تراقب كل حركة عند مدخل الغابة، وأخذت تطير وتحلق فوق المدخل بشكل دائري. وقد مالت الشمس نحو الغرب، وقربت أن تغرب. كان نبيل يعرف حيوانات الغابة وطيورها، وعرف أنها تتأثر بالموسيقي ونغماتها، فاستعد بقوسه وسهمه ليستعملهما عند الضرورة، وجلس في داخل فجوة (فتحة) في شجرة ضخمة كبيرة، وبدأ يصفر ويزمر بمزمار معه ويحدث نغمات موسيقية هادئة، ويرسل تلك الموسيقي العذبة الهادئة نحو الطيور البيضاء القريبة من المكان الذي اختبأ فيه. تأثرت الطيور بنغمات الموسيقي، وتغيرت حركاتها، فبعد أن كانت تطير بشكل دائري لتهجم عليه، توقفت عن الطيران، وأمالت رؤوسها لتصغي وتتمتع بالموسيقي العذبة الهادئة، ونزلت ثم وقفت على صخرة كبيرة مسطحة بجانب مدخل الغابة. استمر نبيل يصفر ويزمر، ويلعب الموسيقي، وغير النغمة، وجعلها نغمة منومة؛ حتى نامت الطيور البيضاء متأثرة بالموسيقي، ووضعت رؤوسها تحت أجنحتها، ونامت نوماً عميقاً.
اطمأن نبيل، ونجح في تنويم الطيور البيضاء، ومر بينها، ودخل الغابة المسحورة، التي لم يدخلها إنسان قبله دخلها بهدوء؛ خوفاً من أن يسمعه أحد، أو يراه حراس آخرون للساحر. دخل الغابة المخيفة وقد أظلم الليل، وأحس بالتعب، بعد رحلته الطويلة، ومشيه طول النهار، فجلس ليستريح، وانتظر حتى يطلع القمر. ولشدة تعبه نام نوماً عميقاً. وحينما استيقظ من نومه لم يعرف مقدار المدة التي نامها، ووجد القمر مضيئاً، ورأى بجانبه قطة بيضاء، واقفة على رجليها الخلفيتين، تنظر إليه بعينيها الزرقاوين، نظرة كلها عجب واستغراب وحول رقبتها شريط من الحرير البرتقالي اللون، وتلبس فوق جسمها رداء (فستاناً) حريرياً، ذهبي اللون. وقد عجب نبيل حينما رآها، واعتقد أن هذا هو الساحر نفسه في صورة قطة، فأمسك القوس والسهم بيديه، واستعد لقتلها، وسألها: هل أنت صاحبة الغابة المسحورة؟ أجابت القطة البيضاء: لا تخف، فأنا مثلك، وقد كنت عروساً، فسحرني هذا الساحر الشرير، وجعلني تحت سيطرته ونفوذه، ثم سألته: من الذي أتى بك إلى هذا المكان الموحش، والسجن المنقطع عن العالم؟ قص عليها نبيل قصته، حتى وصل إلى الجزء الخاص بالطيور التي عند مدخل الغابة، فارتعدت القطة البيضاء خوفاً عليه، وقالت له: إني خائفة عليك؛ لأن من دخل هذه الغابة استعبده الساحر، وجعله خاضعاً له بطريقته السحرية. قال نبيل: صفى لي هذا الساحر؛ فقد أتيت إلى هنا لأبحث عنه. وإني أريد أن أعرفه عندما أقابله. فحذرته القطة، وقالت له: اخفض صوتك، ولا تتكلم بصوت مرتفع؛ فقد يأتي إلينا في أي لحظة. وإننا لم نره بصورته الحقيقية، فأحياناً نراه في صورة رجل، وأحياناً في صورة قزم من الأقزام، ومرة نراه بشكل زوبعة شديدة، أو سحابة كثيفة سوداء، فإذا أعجب بشيء خطفه، ثم سحره، وجعله عبدا له. وفي تلك اللحظة سمع نبيل صوت رياح شديدة بين الأشجار، فصاحت القطة: أسرع، وادخل المغارة البعيدة، وازحف على الأرض؛ حتى لا يراك؛ لأن عينيه كعين الصقر.
نفذ نبيل ما أمرت به القطة، وزحف مسرعاً؛ حتى وصل إلى المغارة، وانتظر أن تتبعه القطة، ولكنها لم تتبعه، فعجب من أمرها، وذهب إلى المغارة، واختار مكاناً يرى منه ما يحدث في الخارج، فرأى في ضوء القمر قطة بيضاء تلبس رداء (فستاناً) حريرياً ذهبي اللون وترقص رقصاً جميلاً منتظماً، إلى الأمام، ثم إلى الخلف، فأعجب نبيل برقصها، ونسى الخطر الذي يقرب منه، ويحيط به، وفكر في أن يصفق لها إعجاباً بها. ولكنه في تلك اللحظة سمع صوت استحسان يقول: حسن جداً، أيتها القطة الجميلة البيضاء. فخاف قليلاً، عندما سمع ذلك الصوت وهو نائم على الأرض. انقطع الصوت، ورأى القطة هادئة ساكنة، فخرج من المغارة يجرى، واتجه نحوها، ففتحت عينيها، وقالت لنبيل: إنت بخير. وقد ذهب الساحر إلى حاله، وحينما يطالبني بالرقص أرقص، وقد أمكث مدة طويلة، ولا أستطيع أن أقف إلا إذا سمح لي. قال نبيل: إنني أعلم أنه قد سحرك، ووضعك تحت سيطرته وأمره، ولكن مستعد لأن أنقذك من شر هذا الساحر إذا استطعت، فهل هناك وسيلة بها أستطيع مساعدتك؟ أجابت القطة: نعم هناك وسيلة للتخلص من السحر. ففي هذه الغابة حجرة سرية، بها صندوق معدني، يحتوي على مرآة سحرية. ولكنني لم أر تلك الحجرة منذ أخذني إليها. وإن نظرة إلى تلك المرأة غيرتني إلى صورة القطة التي تراها الآن. وإن الطريقة الوحيدة التي أستطيع بها الرجوع لصورتي الأولى هي الحصول على تلك المرآة، وأنظر فيها ثانية، وأقول الكلمة السحرية التي يرددها الساحر ثلاث مرات، فيزول السحر.
يتبع…..
من قصص حكايا العآلم الآخر” واقعية”