.. لا يزال دماغه يتقلب من وجع الحسرات، لا يعرف لماذا لا تسكت تلك الأصوات المثرثرة صبحاً و عشيا ، و لا يهدأ ذلك الطفل الباكي اعتراضاً على عدم إشراكه في اللعب.. مع أنه لا يشعر بالشغف اللازم للمشاركة، و لا الحاجة لامتلاك المهارات الضرورية الملفتة..
صرير الملاحظات التي يناقشها مع نفسه تشبه صوت الرعد المدوي في الوجود .. تباً لسماء الرأس الملبدة بالهموم الماطرة .. إنه يتمنى أن يحظى بلحظة صفو تمنحه متعة المشاركة، و جمال التفَهُّم، و انسيابِ التناغم مع القطيع ..
لماذا يقف مشدوهَ البصر أمام كل شيء.. و يتبع أثر كل موقف يمر بجانبه صدفة .. لماذا يجوب بخياله في كل أرض لا تخصه .. و يقتحم بآرائه بحاراً لا يعنيها سباحته فيها و لا يرضيها غوصه بها ..
كان يخوض مع الحياة معركة غير عادلة، فلم تكن الجبهات المعادية تعلم أنها أُقحِمَت عمداً في معاركه الخيالية و مبارزاته الوهمية، فلطالما حقق في خضم تلك المعارك و على ساحاتها بعض الانتصارات و كثيراً من الهزائم .. و حصل خلالها على أوسمة من الجراحات الطفيفة حيناً و الغائرة أحياناً، و التي كانت عادةً تُتَوَّجُ بآلام حادة كلما شحذها على فواصل دماغه اللاهب و في سراديب ورشاته النفسية ..
لقد علم قبل مدة، أن العالم الطاحن لا يزال مستمرًا في عملية الطحن القاسية، لا يأبه لآلاف المقاومين العالقين تحت حجر طاحونته، و لا يستمع لأنّاتِهِم الثكلى، و لا يأبه لصوت تكسر عظامهم،.. لأنه لو التفت لذلك .. لتوقف الكون عن إخراج طحين التجارب اللازم لإطعام ملايين الجوعى من المحتاجين المتراصين في الصفوف برفقة أطفالهم، منتظرين حفنة الطحين التي قد يشدون بها ظهورهم و يرممون عظامهم.. و يرسمون مستقبلهم ..
وقف ليشاهد طفلاً يقفز فرحاً لذلك الماء المنبعث من النافورة .. دقق في حركة القدمين و هما تتحفزان من أجل القفز .. تحسَّسَ قدميه المشوهتين من احتراقهما بعد مسيرِهِ على الجمر اللاهب أعواماً طوالا .. لم يعد باستطاعته القفز فرحاً كذلك الطفلِ الجاهلِ بما ينتظره في الدروب القادمة .. ليته يستطيع تحذيره من ذلك المجهولِ المتربصِ له في الطرقات .. لكن تجاربه الحارقة كانت قد علمته بأن النصائح لا تفيد أولئك الشغوفين حد العمى .. أعينهم لن ترى أبعد من تلك اللحظة التي ينتمون إليها .. و لن تعرقلَ مسيرةَ أقدامهم نحو المجهولِ المُغري بعضُ كلماتٍ مبعثرة أو نظراتٍ مشفقة ..
تساءل .. إن كان الطفل الذي بداخله حاقد على الطفولة كمرحلة عمرية .. ساخطٌ على عدَمِيَّة العدالة فيها من شتى الجهات .. راودته تلك الفكرة و هو يشاهد مجموعة أطفال يجتهدون في إتقان اللعب على الزلاجة و يتفننون في ممارسةِ الحركاتِ الصعبة.. فهو لا يريد أن يُحَمِّلَ مسؤولية غرقه في آلام الوعي لأحد .. لكنه يستغرب من قوة تأثير تلك المرحلة في تشكيل هيئة الذات و رسم إحداثيات حياتها من الداخل الخفي و الخارج الظاهر .. كيف ذلك .. و عقول جميع الكائنات تتفق على عدم تحميل مسؤولية أي فعل لطفل لا يزال نيئاً لم ينضج بعد .. لتقوم بتحميلِه تلك المسؤولية لاحقاً ثم تُلقي على كاهله أثقال الملامة و أطنان المطالب .. و تُعلِمَهُ أن ما هو عليه من خراب عقلي و دمار نفسي .. ما نشأ إلا لخللٍ فاسدٍ أو مُفسِدٍ أصابه وقت الطفولة .. بسواعد الأقربين أو بصُدفَةِ الظروف .. لتنتج بعدها تلك المعضلة العقلية في عدالة التقييم و صوابيّة التُهَم ..
لم يعد يأبه الآن لشيء .. تلك الحياة مضحكة .. فكاهة تافهة .. ينكرها العاقل في خلواته .. ثم يعيشها بإرادته السجينة في حبس القطيع .. كلنا متشابهون في أمنياتنا بالحرية من ناحية .. لكننا جميعنا مشتركون في نبذ المخالفين من ناحية أخرى .. ترى .. كم هي الشجاعة التي نحتاجها للانسلاخ من أصفادنا الذاتية .. خاصة و نحن لا نراها إلا على أيدي الآخرين فقط ..
لملَمَ سجائره و بقية أغراضه .. و تمتم بألفاظ نابية .. و ملامات ساخطة .. رمى بها دماغه الغامض .. و قراره السخيف .. الذي أقنعه أن يغيِّرَ الجو .. و يخرج للتنزُّه .. آلمه ظهره من إطالته الجلوس .. فَكٍّر باستجداء بعض المساعدة من أجل الوقوف .. ثم تذكر آلام عقله المزمنة .. و كيف يستنكر استجداء ما يريحه من لذة ذلك الألم .. فانتصب قائماً دون مساعدة ..