مقالات
جدل بين عودين / مارسيل خليفة
كمثل عودٍ عتيقٍ من شغل النحّات . رُممّ بذكاء وذوق وحب . شُدّت أوتاره وحفرت قمريتُه بإحساسٍ وشغفٍ كبيرين . فغدى إن مسته ريشة صاح أنا الوتر .
منذ أكثر من ربع قرن رافقت موسيقى جدل مخاضاً وولادة وتمارين
وكما على كثير من أعمال مرسيل خليفة ، تعرفت على جدل بشكل Partition نوتات بقلم الرصاص على ورق . لم أكن قلقاً على السطر الأول المخصّص لأول العودين . فالمؤلف كان عازفاً في أوج براعته التقنيّة . ومن البديهي أن يخص حصته بما يسلّط الضوء على عوده وحركة يديه : ميلوديا أخّاذة ، تصاوير حاذقة على زند العود وعلى حدود قمريته وحركات ريشة مركبّة في شبه معجزة .
قلقي وفضولي معاً انصبا على السطور الثانية ، على ما هو مكتوب للعود الثاني . كنت أخشى أن يكون جدل مجرد Duo فاقد التوازن يستأثر فيه عودٌ بالحديث ويكون الثاني مجرّد مرافق او مردّد أو صدىً لما يقوله الأول . كنت أخشى حتى المفاجئة أو المحاورة الشكليّة . فلطالما سمعنا هذا النمط بين عود وبزق أو بين ناي ووتر خائف في الكمان كما جاء في قصيدة درويش .
إن وَعَدَ مؤلف بجدل فهو يَعد بسؤال وجواب ومقاطعة وربما مشاكسة واقتراحات ومبادرات من الند إلى الند . وبالتالي جدل مرسيل خليفة وفا بالوعد . ألفُت نظر السامع إلى أمرين أبعد من براعة العزف وسحره الأكيدين . الامر الاول ، مرسيل السبعيني لم يعد يجادل العود الثاني بنزق ساحر سنة ١٩٩٥ إنه الآن يستعيد سطور جدل بنضج من كتب للتوّ موسيقى جداريّة محمود درويش . يستعيد بعزفه كما درويش في شعره كل أطياف الذاكرة في مقطوعات تعود إلى زمن الكونسرفاتوار . يسترجع مقدمة ” مَرَقْ الصيف ” وايقاعات رقّص عليها فرقة كركلاّ ومنها الى التراثيات وإلى هدأة التقاسيم ونهاوندها الآثر . الأمر الآخر هو السرّ العميق الكامن في العود الثاني . قد يبدو هذا العود متحفظاً ، رافضاً البوح ، انتقائياً في مواضيع الجدل . وهنا يكمن سحر شربل إذ فهم منذ البدء امكانيّة هذا الجدل . فالأمر ليس جدلاً بين عودين ، إنما بين عودٌ وذاته الأخرى . الصوت الأول يستذكر ويبوح ويصدح وأحياناً يسلطن . الصوت الثاني حميم داخلي وحتى إن صرخ يتغلغل الى الأذن والقلب .
مرسيل وشربل لأوتاركما مساحة هذا الليل وهدأة هذا المكان .
جورج مهنّى