مقالات
انعكاس / رياض الصالح
لا زلت في دوامتي يا عزيزتي .. لعله جواب يليق بسؤالك الدائم عن حالي .. أشعر بدوارٍ شديد و أنا أسير بمتاهات دماغي المجدولة .. و لا زلت أتعرف على دهاليز خفية .. و مفاجآت مغلفةٍ بياقات تستفزني لكي أفتحها .. هل تعلمين .. أنني بدأت أصحح مسارات كنت أظنها دروب الحياة الوحيدة .. لعلني أبرر لك أو لنفسي تلك التغيرات التي لا تنتهي ..
و هل تعتقدين أن الحياة تعلِّمُني .. لا أظن ذلك .. فأنا من الذين لا يعترفون بمبدأ ” هكذا علمتني الحياة ” .. فالحياة في رأيي أقسى من أن تُرخي طرفها لأحد .. أو تُضَيِّع وقتها لتُعَلّم أحدًا .. إنها تسير في اتجاهات عشوائيةٍ لا تتوقف .. فتسرق أعمارنا و ترهق أرواحنا و تجلدنا بسياطها دون رحمة .. ثم تريدين مني أن أراها كمعلّمٍ و مُرَبٍّ يترك ذكرياته الجميلة في عقول تلاميذه و نفسياتهم .. حتى لو ضغطتُ على نفسي فاقتنعتُ بأنها تنتمي لسلكِ التعليم .. فمتأكد أنها تلسعُنا كمُعَلِّمٍ فاشل .. يمارسُ مهنته بضراوةٍ وحشِيَّة .. تتركُ آثارها المشوهة على أرواحٍ تشكلت وفق فطرتها البيضاء ..
أعتذر يا سيدتي .. فأنا من أولئك المشوهين .. أطلب منك أن لا يأخذك الاستغراب من تناقضاتي فتضحكين في البداية.. ثم تغرقين في المتاهة مثلي .. أتساءل كيف نولد بصفحة بيضاء .. و ما أدرانا نحن المعذبون بذلك .. لعل لوحتنا عبارة عن أحجية على شكلِ صورةٍ فائقة الجمال .. مقصوصةٌ مقَطَّعة.. قد رُسِمَت ملامحها بشكلٍ دقيق .. ثم تبعثرت أجزاؤها على طولِ مدى حياتنا .. و أُخفيت تمامًا .. فابيضّت صفحاتنا .. ليتسنى لكل مرتحلٍ منا .. أن يجمع أجزاءها ببراعة .. و يأخذ حذرَه من القطع الأخرى المخادعةُ التي ترسمها له يدُ الحياةُ القاسية .. ليظن أنها القطعة المناسبة .. ثم يتفاجأ بها أنها تشوِّهُ ملامحَ الصورة الحقيقية .. و لا تنتمي لشكلها الأصيل و لا تنتسب لها من قريب أو بعيد ..
أعلمُ أنك مندهشة مما تقرئين .. لكنني يا عزيزتي .. كنت من الذين أخطؤوا في اختيار القطع الصحيحة .. فهل تعرفين كيف عرفت ذلك .. لن أتركك فريسة للحيرة .. و لكن أقول لك أنك إحدى أسباب معرفتي .. فلستِ وحدك .. و لا أنكر أنني من الذين غرتهم مظاهرُ الحياة .. و خدعهم زحام الشعارات و هول أعداد النجوم المزخرفة التي لم تكن تناسب لوحتي .. لكن تجاربي العديدة و خيباتي الصادمة .. كانت توقظني من غفلتي و أنا أتّبِعُ شغَفي الساذج .. و رغبتي الطامعة في الوصول السريع ..
أتخيل الآن جعبتي الزاخرة بأدوات التنقيب عن أجزاء صورتي .. و أتفهم جهلي عندما اكتفيت بأداة أو اثنتين فقط .. ثم آمنت أني لا أملك غيرها .. حتى أتيت أنت يا عزيزتي .. و بيديك الناعمتين، فتحتِ جُعبتي، و أعلمتِني بوجود مئات من أدواتٍ .. لا أعلمُ عن وجودها أصلاً .. فأزحتِ عنها الصدأ .. و في نفس الوقت .. أزحتِ عن وجهي ذهولَ المفاجأة ..
لا أريد أن يتوارد إلى ذهنك شك بأنانيتي .. أو ظن بأنك مجرد وسيلة لتحفيزي على اكتشاف ما أملك .. فأنا لا أنكر حاجتي لمن يُحَمّسُني في رحلة البحث عن الذات .. لكنني ما عرفت قبل أن عرفتك أنك المفتاح للمعرفة .. و أنك الشرارة التي أوقدت مصباحي .. و أراحت عيوني المجهدة من عتمة الظلام ..
هل تذكرين البدايات .. لقد اهتديت وقتها إلى إطار الصورة .. وجدناه سوية في مغامرات تسوُّقٍ طويلة و زيارات ٍلحوانيت لا أذكر تعدادها من كثرتها .. و لكني أذكر جيداً مقدار التعب حينها .. و إرهاقي العقلي وقت الاختيار .. فلم تكن حدود إطاري قد تبَيَّنت .. حتى هبّت بعض نسائمك لتزيح الرمال التي كانت تخفيها .. و لا أنسى كم كانت مكلفة باهظة الثمن .. لكن ما أراح نفسي وقتها أني وجدتها .. و أن إيجادها كان برفقتك ..
قد لا يسعفني زمني و لا قدراتي و لا صبري على التحمل في إكمال الصورة بجميع أجزائها الصحيحة .. قد أفاجأ بعد رحلة طويلة بسرابٍ خادع .. و نظائرَ مشابهة طبق الأصل .. لكنها ليست الأصول المنشودة .. لا أبالي اليوم و لا أقلق من مستقبل لا يساعد على إكمال لوحة فردوسي المفقود .. إلا أنني برفقة أحاسيسك الملتهبة .. تعاظمت حواسي جميعها .. فامتلكت قدرة عظيمة على التخيُّل .. و حدَساً يتفوق على سرعة الزمن .. فتراءت ليَ الصورة واضحة .. بل أوضح منها حين اكتمالها .. و أدرك ذلك حقاً .. لأنني أرى انعكاسها .. كلما حضنتني عيناكِ .. و أنتِ تنظرينَ إلَيّ ..
# بقلم
# رياض الصالح