مقالات
في غيابك .. رياض الصالح
منذ أن عرفتُكَ يا عزيزي .. و أنتَ يُدهِشُني جنونُك .. فيزيدُني بكَ جنوناً يتضاحكُ و يتباكى .. ثمّ يبهرُني بشكلِه المتأنِّقُ كلّما صاغَ كلاماً أو رتَّبَ أفكارًا .. و قدّمَها كباقةِ وردٍ يطالِبُني أن أشُمَّ أحاسيسها و أتذوَّقَ رحيقَها .. ثمَّ يجلسُ بمحاذاتي مترقباً لونَ ورداتِه الحمراءِ على وجنتاي .. أو وَقْعَ عبقِها في قلبي .. متطَفّلاً يبحَثُ عن نظرةٍ من النوعِ المُفَضَّل لديه .. يطمئِنُّ بها .. أنه لا يزالُ في عينَيَّ .. مجنونيَ الصغير أو فيلسوفيَ الكبير …
أنا قلقةٌ عليكَ يا عزيزي .. و لن أُخفي قلقي هذا بعد الآن .. فعالَمُك يزدادُ اتساعاً .. شاسعَ المدى .. مُغرٍ لمثلِكَ بالمغامرات .. و جاذبٍ بطبيعتهِ للمخاطر .. فكيف لا أخشى عليك .. أخاطِبكَ الآن بلُغَتِكَ .. لعلك لا تفهمُ لغة عالمي الأنثوي .. ألستَ الذي ترى في كلِّ ما هو حولَك عالمٌ مستقِلٌّ بذاته .. ألم تخبرني أنّكَ تتضايقُ كلّما اختلطتَ بعوالِم البشر المزدحِمة .. خوفاً من نظريّتك في اصطدام العوالم المتنافرة .. منذ أن أصابك رهاب انفجارات التصادم .. في معارك الصراع على البقاء أو الوجود ..
لا أخفيك أن نظرياتك هذه تُعجبني جداً .. لا أقصد التصادم .. و إنما نظريتك الأخرى عن الاندماج .. لم أستطع حين فصَّلتَ لي دقائقها أن أمنعَ نفسي من الاعتراف .. قبل أن تكمل .. أنّني أشعرُ بالتحامِ روحي بروحك .. أو كما سميتها أنت .. عالمي و عالمك .. يا عزيزي .. آمنت أنَّ عالمك منهُ المَجرى.. و عالمي من يزَوِّدُهُ بالماء .. مساحاتُكَ الخضراءُ تزيّنُها أزهاري التي زرعتُها فيك .. حتى سماؤك المظلمة .. فرشتُها أنا لكَ بالنجوم .. و لمّا أسرجتَ لي في عالمي شمساً .. أنَرتُ لك في ظلامِ عالمك قمراً ..
مشتاقةٌ إليكَ أيها المجذوب في حضرتك الكونية .. لقد سكبتُ عالمي كله في بحارك الهائجة .. أما آن لك أن تُبحِرَ نحو مرفأي الراسخ في اليابسة.. الصامتُ الكتوم ..
كنت أتعجَّبُ كثيراً من شعورِ الاشتياق هذا .. و نحن كنّا و لا زلنا عالَمَيْن مندمجَيْن .. لكنّي أعلمُ أنَّ اتساعَك يتباعَدُ في حدوده .. و يقفزُ عبرَ الثقوب السوداء أو دهاليز التفاصيل المجهولة .. من مجرة لأخرى .. و من بُعدٍ لبُعدٍ بسرعة بروقِكَ الخاطِفَة .. فكيف لي أن ألُمَّ شتاتَ حدودِك أو أسدِلَ ستائرَ عالَمِك .. فلا يليقُ بعالمي الآن .. بعد أن اكتفى كُلُّهُ ببعضك .. إلا أن يشتاقَ لكلِّ تفاصيلك الرجوليّة الساحرة .. و لعيونك الضاربة في الخيال .. لانحناءِ رقبتك اللاواعي كلما شَرَدتَ في غاباتِ ذهنك .. اشتقتُ لمراقبتك .. و تأمُّلاتي المُرَكِّزَةِ في كُلِّ تفاصيلك ..
ها أنذا أجلِسُ على موائِدِ المطاعمِ في انتظارِكَ وحدي .. أرمُقُ من بعيد عالماً فقيراً يقتاتُ من صفيحةِ القمامة على قارعة الطريق .. يشارِكُهُ عالَمٌ على هيئَةِ كلبٍ بنَفسِ المائدة .. و بجانبي عالَمٌ على شكلِ قطة تلعَقُ بلسانها بقيٍّةً من ماء المطر على الشارع .. تحاولُ لفت انتباهي بعيونها المتسولة .. لأرمي لها قطعةً من عالَمٍ بقَرِيّ .. كانت قد قيَّدَتهُ الحياة .. ثم أفلتته مفروماً مشوياً على ظهر مائدةِ عالمي البشري الشره ..
رأسي يؤلمني يا عزيزي .. كلّما حاولتُ التوَسُّعَ في عالمِك .. فأنت تعرفني كم أحبُّ حركة الحياةِ .. و التماسَ السعادَةِ في نواحيها .. و إدامة النظر في عوالم الطبيعة .. كم تعجبُني أسرابُ الطيور .. و مجموعات الغزلان .. و كم يريحني الشعور بنبضِها يسري أمامي في أوردتها .. فلماذا صرتُ الآن .. أرى العوالم كما تراها .. تتصادم أمامي بوحشية .. ليُفني بعضها بعضًا .. و يفتِكُ قويُّها بضعيفها .. ليتشَوَّهَ ذلك الجمالُ المُرهَفُ في نظري .. بعد احتضانه لعوالم شتّى .. تتحوّل حركتها النابضة إلى مجرد مطارداتٍ محبوكَة .. و رحلاتِ صيدٍ يمارسها الصيادون البرجوازيون .. كما تمارسها عوالم الفرائس كذلك لما تظفرُ بعالمٍ أضعفُ من عالمها .. فكيف سأحتفظ بجمال الصورة الذي يتشكَّلُ كلما ابتعدت .. و يختفي كلَّما اقتربتُ من التفاصيل .. بتُّ لا أفهَمُ كيف يكون الجمالُ في عوالم البشرِ أكثرُ وضوحاً بالبعد .. منهُ عند الاقتراب ..
ارتبكتُ كثيراً في غيابك القصير عنّي .. فيبدو أنّي أدمنتُ احتساءَ قهوتك الفكرية .. و تشبَّعتُ بحركاتك الجنونيَّة .. و تسربلتُ عشقاً بألوان قمصانك الغامقة .. فلا أتحسَّرُ الآنَ إلا على نفسي الهائمة في عالمك الغامض .. باحثةً عن إجاباتٍ لا زالت طليقَةً في البرّية .. أعجز عن اقتناصها وحدي .. فآوي إلى ملجأ انتظاري لقدومك .. تحت ظل أمطاري .. أوقدُ ناري .. تساندني مظَلَّتُكَ التي تركتها .. و مقعدك الخاوي بجانبي .. أحاورُ طيفَكَ الملهِمُ فيه .. حتى تعودَ إلَيَّ سالماً..
# بقلم
# رياض الصالح