مقالات
لعلك تسطعين .. رياض الصالح
قلت لك يا عزيزتي أنها ستمر السنين، ها هي تمر أمام أعيننا بلا خجل، وتطوي سجلاتها بلا حياء، وكأننا لسنا الذين ملأناها بالأحداث، وزيَّنا صفحاتها بالمداد ، قلت لك ذلك، وكنت تشيحين بنظرك عن وجهي كما فعلت السنوات التي مضت، وكأنك تخادعين نفسك عن هذه الحقيقة، وتريدين الحفاظ على صمتك المفرط، ولا تحبين من ينزع عنك مزاجك الذي ترتديه، ولون عينيك المفضل الذي تصبغين به كل ما ترينه .
أنت تعرفين تلك الصخرة الكبيرة على جانب الطريق المتعرج الذي يؤدي إلى الجبل، تذكرينها على الأكيد، فلطالما مشينا سوية بصحبة كلماتنا الشاعرية، ونظراتنا الغارقة في عيون بعضنا، وضحكاتنا التي لا زالت تتردد في عالم الأثير، لقد مررت بها بالأمس، نعم يا عزيزتي، مررت بها وحدي، كان الجو بارداً جداً، قاسياً على عظامي التي أرهقها التعب، وأثقلها جحيم الذكريات.
سألت نفسي وأنا أنظر لتلك الصخرة العنيدة، ترى لماذا تعَمِّرُ الجمادات أكثر منا نحن بنو البشر، وكيف تحتمل قساوة البرد، ولفحات الشمس، واحتقار المهمِلين العابرين، ووقاحة الناظرين المترصدين، دون اعتراض أو شكوى، ولماذا كتب علينا نحن الأحياء ذوي القلوب النابضة، والأنفاس اللاهثة، والأحلام الدائرة في أفلاكنا، أن نتجرع الأحاسيس بكافة أطعامها، ونعيش ملاحظين للتغيرات الناشئة عن عوامل التعرية التي تتعدى علينا بها أنامل الأيام، ثم تطالبنا بأن لا نكترث للتغيرات، ولا نبالي بالعثرات، وأن نتحلى بصبر الصخرات، وكأن قلوبنا جامدة بلا مشاعر.
أنا يا عزيزتي أؤمن بالنفس الإنسانية العاقلة، أعشق أولئك المتعمقين في الإدراك، فلا تعنيني تلك الجمادات الميتة، ولو لبثت في مكانها خمسون ألف سنة، ذرة عاقلة تجوب الفضاء، خير من ذلك الغبار الكونيِّ الميت، فكرةٌ طائشةٌ في ذهن مراهقٍ أرعن، خيرٌ عندي من جبلٍ ساكنٍ لا يغيِّرُ مكاناً ولا يُحدِثُ فرقاً، ولا يُسمِعُ صوت احتجاجٍ أو قهقهة فرَح، أرواحنا تدوم أكثر يا عزيزتي، هالاتنا لا زالت تُشِعُّ حول كل تلك الجامدات الخاملة، لن يفنيها زمن ولن يسدلها ستار طالما تطوف حول السابحين في الطوفان.
الحياة جميلةٌ لمن يفقهُ كُنْهها يا عزيزتي، والحركة الدؤوب هي سرُّ أسرارها، حركةٌ عاقلةٌ مدركةٌ لكل خطوة، حتى تلك الفوضى التي تُفَجّرها البراكين المتمردة على سكون الجبال وصمتها الأبدي، هي فوضى خلّاقةٌ لعصرٍ جديد، ودأبٍ جديد، ولوحةٍ جديدةٍ ناطقة.
فلن أُمَنّي نفسي بعامٍ قادم، كنوعٍ من التعزية على عامٍ فائت، ولكني سأتعامل مع الحياة بالجملة، أقبلها بالكامل، أو أرفضها جميعها، أزاول فيها ما وُجِدتُ لأجله بأقصى ما أستطيع، وبحماسةٍ لا تتعب أو تمَلّ، ولا تزول أو تفنى، ولا تعطي لمرور السنوات أهمية تذكر، أو أنني أعلنُ تنكُّري لمبدأ الفناء البائس، فأعوِّضُ ما فاتني من بؤس، بانتظار عامٍ بائسٍ جديد، بلا حركة، بلا مشاعر، بلا حياة، ولكني ألزمت نفسي بالخيار الأول يا عزيزتي، لعلك تتفهمين بعد ذلك طبيعتي الذهنية، وتتصبرين كلما عانيت من تغيراتي و تقلباتي و مزاجية حركاتي.
أيتها الغالية، أنا رجل ثائرٌ على ذلك الصمت الموحش الذي ترتضيه الريشة الطافية على سطح موجةٍ عاتيةٍ لا تلقي لها بالاً، أنا كتلة أفكارٍ تشكلّت من إعصارات أحاسيسٍ حيّة، وشغوف ينتقي أجمل ما قدّمته الحياةُ من عيون الإلهامات، سأمشي يا سيدتي على كواكب بعيدة، وسأركب بساط الأرياح، وسأخوض غمار رؤىً لا يحلم فيها جلاميد الصخور التي قيدتها جاذبية الراحة والعيش حول من يساندها من الحصى الصغير الكسول المهمَل.
فتعالي معي يا رفيقتي، لن أرغمك على فعل شيء، فأنا أعلم أن نفوسنا تصنعها أفكار توارثناها، وظروف توارثتنا، لكنني على قناعة بأن ما يفصلنا عن القفزة من لوحةٍ قاتمةٍ إلى لوحةٍ وضيئة، قرار صغير، أو دفعَةٌ فجائية خاطفة، أفهم أن الإنسان مخلوق لا يحتمل العديد من الضربات، ولا جلِداً كالصخر، أعرف أن عظام الممالك البشرية قد تنهار بعد معركةٍ فاصلة، أو ثورةٍ عارمة، فما بالك في نفسٍ عليلةٍ ضعيفة، لن تحتمل يا عزيزتي كل زخات السنين، لن تحتمل، لكنني على يقين، أنها قد تحتمل ما هو أعتى، فقط إذا غيرت طريقتها في التفكير، وعودت نفسها على مرونة التغيير، وآمنت بنفسها أنها تستطيع، ولن تعرف ذلك إلا إذا حاولت، فحاولي معي، أو لأجلي لعلك و بعد شتاءك هذا .. تسطعين من جديد.
# بقلمي
# رياض الصالح