مقالات

الراصد / رياض الصالح

ثم إني أكتب لك يا صديقي مرة أخرى، فلم أكتف بما سردته لك سابقاً في عشوائياتي.. و أعتذر عن عدم السؤال عن أحوالك .. فليس لي دخل بها .. و لا أظنني قادر على فعل شيء لك أصلاً .. فلماذا أرهق نفسي بالمجاملة .. و أرهقك بالإجابة الكاذبة .. فجميعنا مجبولون على إخفاء أحوالنا بالعادة .. لدواعٍ كثيرة أنت أدرى بها مني ..
كما أنه يخطر في بالي الآن سؤال طالما تردد على ذهني .. عن تلك الصعوبة التي تعترينا عند البدء في حديث ما .. أو الدخول في محادثة مع شخص ما .. لعل هذه المعضلة تعد من الأسباب الرئيسة لافتتاح المحادثات باللجوء إلى التساؤل عن الأحوال ..
دعك من هرطقاتي هذه .. لا أريد استدعاء ضجرك مني و لا ملالك من كتاباتي .. فلم يعد في الآونة الأخيرة من يستمتع بالقراءة لي .. و لست مستاءً من ذلك .. صدقني .. فأنا أعلم أن كلماتي متعبة جداً .. و تعمقي في الأمور أقرب لكونه شكلٌ من العقدٌ النفسية .. و مع إدراكي بتعرج هذا المسلك إلا أنني مجبول على العناد .. خالٍ من شهوة حب الجماهير .. أو الجري وراء الشهرة .. و لكنني إذا خسرتك أنت .. فقد أتوقف عن الكتابة نهائياً .. لانعدام الحاجة لها .. لي و لك على سواء ..
ليت هنالك فنون روحية كما للقتال فنون .. ليت هنالك نوادٍ لكمال الروح كما هي للأجسام .. ليس من باب العتب و لا الشكوى أسوق الحديث هنا .. فالروح لا تراها عيون مجردة من تقدير ما يُحسُّ بالقلوب و يُدرَكُ بالعقول و ينعكس في الأعماق .. و كل هذه أدواتٌ لا يبالي بها الكثيرون .. طالما أنها ليست جديرة بالتقدير في عصر فنون الكسب و تحصيل الفوائد المالية ..
يا سيدي .. لا زلت أخوض مع ذاتي في كل ما يقذفه المحيط من حولي .. أتعمق فيه و لا أغرق .. أرقبه من بعيد و أرصده بلا تأثر .. أقاوم العدوى و أتحصن بالفهم .. و أتداوى كما قلت لك باللامبالاة .. ثم أتساءل لماذا ابتليت بهذه الهواية .. فلا أحرص على إجابة نفسي لتبقى مجهولية السبب واحدة من محفزاتي على الاستمرار ..
صرت مثل ذلك المعتوه الذي بال على كومةٍ من التين بعدما أكل منها و شبع .. ثم عاد إليها لما أحس بالجوع .. ليبدأ بفرز التين .. فهذه أصابها البول .. و تلك لم تمسسها القذارة .. حتى أكل كلَّ ما تبقى .. لا تضحك على حالي لو سمحت .. فهذا مآل الإنسان مدى الدهر .. و كم من المباديء و الأخلاقيات في جميع الأصعدة الإنسانية كانت تعد من الممنوعات و الموبقات في عصرٍ من العصور .. ثم دار عليها الزمن فتلقفتها أيادي الأجيال اللاحقة بترحاب كبير .. و تناولتها بتلذذ و اشتهاء ..
قلت لك أنني ما عدت أبالي بتضخيم المسائل .. و لا الكشف عن الخبايا .. فقد تعلمت أن أكون راصداً فقط .. بعد أن أدركت أنني لا أقدر على إصلاح شيء .. و أنني لست مسؤولاً عن كمية هذا البؤس في العالم .. و لست مطالباً بكنس أوراق الضحكات الجافة في كل ناحية .. لأكشف عن فوهات آبارٍ مكتظةٍ بدموع الباكين .. كما أنني لست ذلك المعالج الذي تزدحم في عيادته جماهير المخدوعين .. لأكتب وصفة طبية مخادعة .. و أرسم ضحكاتٍ مؤقتة .. لا تشفي جرحاً و لا تمحو وجعاً .. مجرد مسكناتٍ و عقاقير توصف للتناول سراً أو جهراً .. لتستمر الخديعة .. و تمضي الحياة ..
و حال الناس يا صديقي .. أشبه بشعر تلك الراكضة الطويل .. المنسدل على ظهرها .. لا يملك عظاماً مقوّمة و لا عضلاتٍ مقاومةٍ لحركة صاحبتها .. فلا يجد إلا الترنح يمنة و يسرةً بارتخاء .. ليزيد صاحبته جمالاً في عين من يراقبها .. و كلنا يا صديقي نتمايل كالمخدرين .. في كل ناحية .. نحاول التأقلم مع الوضع القائم بأي طريقة مناسبة .. و لا نزداد بترنحنا جمالاً .. بقدر الجمال الذي نضيفه للحياة و هي تتحرك و تسير ..
أطمئنك في هذه العجالة .. بأنني لست من الجماهير المكتئبة .. و لا أحيا في مستنقعات السلبيين .. و لست من دعاة الرهبنة .. و لزوم الصوامع .. بل أحب أجواء الفرح .. و أستمتع بالطاقة الجماعية الإيجابية .. لكنني لا أخفيك .. أن حبي لذلك مشروط بالعفوية الكاملة .. فلا أحب حياة الممثلين .. و لا أقتنع بفكرة استحضار المشاعر جبراً .. لأنها لن تدوم إطلاقاً بهذه الطريقة .. و لن تلعب أكثر من دور المسكرات في تعديل المزاج .. ليعقبها أوجاع في الروح قد لا تشفى ..

# بقلمي
# رياض الصالح

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إغلاق