مقالات
أعماق / بقلم رياض الصالح
لا تزال تعاتبني كل مرة على طريقة نظري للأمور، وأسلوبي في تناول الأحداث، ثم تُحَمِّلُ ذنب نفسيتي المتشائمة دائماً – كما تسميها أنت – إلى ذلك التعَمُّقُ في الحكم على الأشياء، والانتباه الزائد للتفاصيل الدقيقة، دعني يا صديقي أصَدّعُ رأسك قليلاً، بنظريتي العقلانية، وأحاول لفت انتباهك إلى ذلك المصنع الذي لا تتوقف آلاته عن الحركة، فلا ينعمُ بالهدوء حتى لو قرر ذلك، لأن محركاته الرئيسة لا تتوقف عن الحركة ليلاً أو نهاراً.
ولا أدّعي هنا أن ما ينتجه ذلك المصنع قابلٌ للاستخدام، أو مفيدٌ للزبائن، لكنها بضاعةٌ تأخذ حيزها بلا شك، حتى لو كانت مجرد قمامة تساهم في تسميم البيئة، وتعطيل الحركة، وهذا ما يجعلني أراجع ذاتي مراتٍ عديدة لدفنها في صحراء جرداء خاوية، تحت أتلال من الرمال التي تبلع كل شيء، حتى ذلك البريق من عيني، وتلك البسمة من ثغري، وذلك الشغف من روحي، بعد فشلي بتعطيل هذا المصنع الرديء خوفاً من إنتاجيته المشوهة، وبضائعه الكاسدة، وهي مخلفاتٌ حقيقية لطبائع الجنس البشري المتوحشة، وغرائزه الجشعة، بلا مجاملة منمقة، ولا تجميلٍ زائف.
طالما تفكرت عن دافعيتي الذاتية لمثل هذا العمل، ودائماً أقف حائراً وأنا أحاول عدَّ أرباحي على أصابع يدي، فلا تتجاوز الأصبع الأول، ثم أقف مبهوراً أمام هذا الإصرار اللامتناهي لتلك الحروف، لتخرج إلى العلن، وتصدح بالثورة غير آبهة إلى أين ستصل.
إنها عميقة إلى الدرجة التي تعاند ضغط الأعماق التي قد تفتك بالأجسام، وترفض رفضاً قاطعًا أن تتحول لآلة سطحية ترطن بلهجات العجائز، وتثرثر بحكاياتٍ يقتلها الاختصار، اسمح لي هنا أن أعلن رفضي لذلك الأسلوب الذي يتناول أحداث حياة إنسان باختصارٍ ظالم، لتلخص تركَةَ العيش الطويل، والهموم الكثيرة، والمشاعر الدافقة، والأفكار المتراكمة، والأحداث الصارمة، بجملة أو فقرة تشرح فيها موقعها من إعراب الحياة فقط، وكأنها تساهم في دفن كل ذلك في مقابر الإهمال التي أنشأتها لنا بلدية الحياة العصرية، والتي تتخذ من السرعة شعاراً ومن الأموال دثاراً.
يا صديقي، مهما حاولت معي فلن تفلح في إقناعي بالانكفاء على ذاتي، ثم التعامل مع ما يدور حولي بطريقة أنانية تخلو من أي تعاطف أو محاولة للتفهُّم والتحليل، لعل هذا ما يصبغ أفكاري بلون العقلانية أو الواقعية، ولا أظنّ أن في محاولتي لفهم كل ما يدور حولي فيه خطأ ما، سوى ادعائك بأنّه قد يؤثر على نفسيتي، ويشتت كياني، ويضيّقُ صدري، ولا أعارض هذا، فبالنسبة لي أصبح كل ما ذكرته اعتيادياً لا يضايقني.
حتى أنني بعد ذلك التعمق، أدركت أن حياتنا نحن البشر لا تخضع للحظوظ الوهمية، والتي صنعها عقل أفاك، لا يشبه عقلي الذي يرتدي نظارات دقيقة بلا ألوان، فلا تتمن لي بعد اليوم حظاً جيداً، ولا تخش عليَّ من الحظ السيء، ولكن أسعفني بحكمة تساعدني على اتخاذ قرارٍ جريءٍ صائب، وكلمة تشجعني بها، أو محذور تنبهني منه، فما حياتنا إلا قرارات شخصية نتعامل بها لنواجه قرارتٍ صادمةٍ أكبر منّا، ووقفات طويلة مع ذواتنا البريئة، نراجع فيها ما أسعفتنا به عقولنا التجريبية فأفلحنا ثم ازددنا بها علماً، أو ما لم تسعفنا به لقلة خبراتنا فعرفنا طعم الفشل المر، ثم قعدنا ولم نتعلم، أو واجهنا وتعلمنا وحاولنا وخرجنا من مآزقنا النفسية أو الحياتية، فكل ما يصيبنا بفعل قراراتنا يا صديقي لا غير.
ثم تعيد الكَرَّة على مسامعي، لأتجاهل هذه الأعماق التي تبصرني بالحقائق، من أجل المحافظة على مشاعرٍ واهيةٍ لذاتٍ تهوى الكسل، وتتحلى بالعجز!
لست من ذلك النوع، ولا أُحبّذُ أن أكونه، وسيظل يعتريني الملل كلما طالعت روايةً، أو سمعت قصةً، أو شاهدت فيلماً، لا يتناول إلا أحداثاً مجردةً من الفكر العميق، وخالٍ من فلسفة الحياة التي نستحق ما دمنا على ظهرها، أن نخوض فيها بلا مواربة أو مخادعة أو تغرير.
# بقلم
# رياض الصالح