مكتبة الأدب العربي و العالمي

عِشْقٌ يَتَجَدَّدُ: قٍصَّةٌ قَصيرَةْ بِقَلَمِ أ. د. لطفي منصور

قالَتْ: وَيْحَكَ أَلا تَذْكُرُنِي؟
رَفَعَ عَيْنَيْهِ وَحَمْلَقَ في ذَلِكَ الْوَجْهِ الَّذي عَلَتْهُ بَعْضُ الْأخاديدِ.
لَمْ يَبْقَ مِنَ الْماضي الْجَميلِ سِوَى بِريقِ مُقْلَتَيْنِ سَوْداوَيْنِ قَدْ صَغُرَتا قَليلًا.
هذا الْبَريقُ لَيْسَ غَريبًا عَلَيْهِ، لَكِنَّهُ الْآنَ وَقَدْ تَقَدَّمَتْ بِهِ السِّنونَ، صَعُبَ عَلَيْهِ أنْ تَرْتَسِمَ صُورَةٌ واضِحَةٌ في ذاكِرَتِهِ لِتِلْكَ الْمَلامِحِ التي الْتَقاها صُدْفَةً، في مَقْهًى كانَ يَعْتادُ زِيارَتَهُ لِيَتَمَتَّعَ بِهُدُوءِ الْمَكانِ ، وَجَمالِ الطَّبيعَةِ.
وَقَفَتْ أَمامَهُ مُنْتَصِبَةَ الْقامَةِ، تُمْسِكُ حَقيبَةً سَوداءَ بِأحْدَى يَدَيْها، وَتَرٍْفَعُ نَظّارَتَيْنِ سَوْداوَيْنِ عَلَى رَأْسِها، سافِرَةَ الْوَجْهِ لَمْ تُخْفي شَيْئًا مِنْهُ بِالْمَساحِيقِ، وحَتَّى شَعْرُها الَّذي وَخَطَهُ الشَّيْبُ لَمْ يَعْرِفِ الصِّبْغَ وَلا الْخِضابَ، لَكِنَّهُ مُسْبَلٌ عَلَى كَتِفَيْها.
حاوَلَ أَنْ يَعْتَصِرَ ذاكِرَتَهَ وَيَرْجِعَ بِها عِدَّةَ عُقُودٍ في أَعْماقِ الزَّمَنِ الْغابِرِ، فَلَمْ يَخْرُجْ بِنَتِيجَةٍ.
– تَفَضَّلي اجْلِسي لِنَشْرَبَ مَعًا شَيْئًا ما.
– أشْكُرُكَ إنِّي عَلَى عَجَلًٍ ، لي دَوْرٌ عِنْدَ طَبيبِ الْأسنانِ سَيَحِلُّ بَعْدَ قليلٍٍ، نُؤَجِّلُ هذا لِلِقاءٍ إخَرَ هُنا إذا كُنْتَ تَرْغَبُ.
– أَجَلْ. عَلَى الرُّحْبِ والسَّعَةِ.
اسْتَقَلَّتِ الْمَرْأَةُ سَيارَتَها وَغادَرَتْ، وَأَخَذَ يَلُومُ ذاكِرَتَهُ الَّتِي لَمْ تُسْعِفْهُ، وَوَجَدَ عَزاءَهُ بِالْغِيابِ الطَّويلِ عَنِ الْبِلادِ الَّذي ناهَزَ خَمْسَةَ عُقودٍ مِنَ الزََمَنِ، سافَرَ فيها إلَى أميرِكا لِيُكْمِلَ دِراسَتَهُ بِإحْدَى جامِعاتِها، وَبعْدَ تَخَرُّجِهِ أَخَذَ يَعْمَلُ مُحاضِرًا في عُلومِ الشَّرْقِ الْأَوْسَطُ، وَلَمّا وّصَلَ إلَى جِيلِ التَّقاعُدِ عادَ عَلَى الْوَطَنِ.
لا يُمْكِنُ أنْ تَكُونَ هِيَ، بَدَأَ يَسْأَلُ نَفْسَهْ، هَلْ أصْبَحَتْ بِفِعْلِ الزَّمَنِ بِجيلِ الْكُهُولَةِ، أَيْنَ النَّضارَةُ، أَيْنَ ماءُ الشَّبابِ، هَلْ تَبَخَّرَ بِفِعْلِ حَرارَةِ الشَّمْسِ وَالْهَجِيرِ. لا يُمْكِنُ لِي أنْ أُصَدِّقَ.
كانَ سامي قَدْ تَعَرَّفَ عَلَى فَتاةٍ تُدْعَى سَلْمَى في بِدايَةِ دِراسَتِهِ الْجامِعِيَّةِ في وَطَنِهِ، وكانَتْ فَتاةً أَنيقَةً، عَلَيْها مَسْحَةٌ مِنَ الْجَمالِ ، مَعَ قامَةٍ بَهِيَّةٍ أَلِقَةٍ، وَعَيْنانِ سَوْداوانِ نَجْلاوانِ ، وَتَوَثَّقَتِ أَواصِرُ الْمَحَبَّةِ بَيٍنَهُما، كانَتْ عائلَتاهُما مَيْسورَتَيِ الْحالِ. وَاتَّفَقَ الشّابّانِ عَلَى الزَّواجِ بَعْدَ تَخَرُّجِهِما.
سامي شابٌّ طَموحٌ. كانَ يَرْغَبُ أنْ يُسافِرَ وَسَلْمَى إلَى أَمِيرِكا لِيُكْمِلَ دِراسَتَه. غَيَرَ أنَّ سَلْمَى كانَتْ مُتَرَدِّدَةً، وكانَتْ عَلَى ثٍقَةٍ أنَّ عائِلَتَها لَنْ تُوافِقَ عَلَى تَغْريبِ ابْنَتِهِمِ الْوَحيدَةِ.
حاوَلَ سامي إقناعَ سَلْمَى وَعائِلَتَها. غَيْرَ أَنَّ جُهودَهُ ذَهَبَتْ عَبَثًا، وَسافَرَ سامي إلَى أميرِكا وَالْتَحَقَ بالْجامِعَةِ. وَتَزَوَّجَتْ سَلْمَى مِنْ قَريبٍ
لَها، وَبَقِيَ سامِي عَزَبًا وَلَمْ يَرُقْ لَهُ الارْ تِباطُ بِالنِّساءِ.
– صَباحُ الْخَيْرِ سامي.
– صَباحُ الْخَيْراتِ. كَيْفَ عَرَفْتِ اسْمِي وَلَمْ أرَكِ إلّا بِضْعَ دَقائِقَ في اللِّقاءِ الْأَوَّلِ؟
– إنَّ اسْمَكَ مَحْفُورٌ في ذِهْنِي مُنْذُ سِنِينَ كَثِيرَةٍ.
– مَتَى وَكَيْفَ سَيِّدَتِي؟
– هَلْ تَذْكُرُ رِوايَةَ “أَنا أَحْيا”؟
– سَلْمَى !! وَوَقَفَ مُنْدَهِشًا؟ لا أُصَدِّقُ عَيْنَيَّ!
(كانَ الشّابّانِ يُناقِشانِ مَعًا رِوايَةَ لَيْلَى بَعْلَبَكِي، وَيَشْتَدُّ بَيْنَهُما الْحِوار. لَيْلَى بِجانِبِ سَلْمَى، وَسامي مُعارضٌ لِمَضْمونِها.)
– أَجَلْ. أنا سَلْمَى يا سامِي. أَرَأَيْتَ كَيْفَ تَصْنَعُ الْخُطُوبُ وَكَرُّ الْأَيّامِ بِما نَحْنُ الْبَشَرَ؟
– اِجْلِسِي حَدِّثِينِي عَنْ نْفْسِكِ.
– دَعْنا الْآنَ مِنَ الْماضي الْبَغيضِ. قُلْ لِي: مَتَى أَنْتَ عائِدٌ إلَى أميرِكا؟
– أَنْهَيْتُ رِحْلَتِي إلَى أميرِكا. يَكْفي أَنِّي عَمِلْتُ أَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعينَ سَنَةً في الْجامِعَةِ. عُدْتُ الْإنَ إلَى الْوَطَنِ لِأَموتَ وَأُدْفَنَ فيه.
وَصَمَتَ سامي وَصَمَتَتْ سَلْمَى بُرْهَةً، وَطارَا بِخَيالِهٍما إلَى أيّامِ الشَّبابِ، وَحَياتِهِما مَعًا في الْجامِعَةِ، وَالْإعْدادِ لِلزَّواجًِ ، وَكَيْفَ انتَهَتْ بِهِما الظُّروفُ إلَى ما هُما فٍيهِ.
-كَيْفَ حالُكَ يا سامي وَكَيْفَ الْعائِلَةُ ؟
– حالٍي كَما تَرَيْنَ، أَمّا الْعائِلةُ فليسَ لي عائِلَةٌ.
– أَلَمْ تَتَزَوَّجْ. نَعَمْ. أنا عَزَبٌ. لِأَنَّكِ قَضَيْتِ عَلَيَّ بِالْعُزوبٍيَّةِ.
ذُهِلَتْ سَلْمَى عِنْدَما سَمِعَتْ ما قالَ سامي، وَسادَ الصَّمْتُ بَيْنَهُما، ثُمَّ افْتَرَقا عَلَى أنْ يَلْتَقِيا في يَوْمٍ آخَرَ.
كانَتْ سَلْمَى مُتَمَسٍّكَةً بالْحَقيبَة السَّوداءِ الصَّغيرَة، وَلَمْ يَعْرِفْ أَحَدٌ ما بِِداخِلٍها إلّا هِيَ. وَلَمّا الْتَقَيا في الِّقاءِ الثّالِثِ، كانَتْ عازِمَةً عَلَى أنْ تُخْبِرَ سامي بِوَضْعِها الِاجْتِماعيِّ، وَهِيَ تَعْلَمُ أَنَّهُ مُنْتَظِرٌ ذَلِكَ بِفارِغِ الصَّبْرِ.
وَعِنْدَما اجْتَمَعا بادَرَتْهُ بِالْعِناقِ هامِسَةً بِأُذُنِهِ أنَّها لَوْ كانَتْ تَعْلَمُ أَنَّهُ عَزَبٌ لَسَعَتْ إلَيْهِ وَلَأَدْرَكَتْهُ وَلَوْ أنَّهُ بِأَقْصَى الْأرْضِ.
كانَ سامي الذي ناهَزَ السَّبْعِينَ مِنْ عُمْرِهِ، ذا جٍسْمٍ رِياضٍيٍّ وَقامَةٍ مُعْتَدٍلَةٍ. يَبْدُو كَابْنِ الْخَمْسينَ سَنَةً. أَمّا سَلْمَى فَهٍيَ في السِّتِّينَ مِنْ عُمْرِها تَبْدُو مَلامِحُها قَوِيَّةً.
– أَرَى حَقيبَتَكِ قَديمَةً جِدًّا قالَ سامي عِنْدَما جَلَسَ بِجانِبِ سَلْمَى في الْمَقْهَى.
– نَعْمْ. أَحْتَفِظُ بِها كَأَثَرٍ عَزيزٍ عَلَيَّ.
– ماذا بِداخِلِها ؟
– شَيْيءٌ يَخُصُّني وَيَخُصُّكَ.
– يَخُصُّنِي أنا؟
– ذِكْرَياتُنا أَيّامَ الْجامِعَةِ. وَفَتَحَتِ الْحَقيبَةَ، وَأخْرَجَتْ روايَةَ “أنا أَحْيا”. وَهُناكَ شَيْءٌ آخَرُ سَوْفَ تَراهُ بَعْدَ أنْ أخْبِرَكَ عَنْ أحْوالي الشَّخْصٍيَّةِ:
– وَأنا أسْمَعُ.
– مَكَثْتُ مَعَ طَليقي ثَلاثَ سَنَواتِ أنْجَبْتُ مِنْهُ بِنْتًا اسْمُها هالَةُ وهي مُتَزِوِّجَةٌ مِنْ طَبيبٍ وَلَها وَلَدانِ ، وَتَعيشُ بِمنتهى السَّعادَةِ.
– وَما هُوَ الْكَنْزُ الثّانِي الّذي يَنْتَظِرُني في الْحَقيبَةِ؟
هذا شَيْءٌ تَراهُ يَوْمَ نُصْلِحُ الْماضي. هَلْ تَرْغَبْ في هذا؟ فاعتَنَقا طَويلًا، وفَتَحَتِ الْحَقيبَةَ فَإذا هيَ رِوايَةُ “أَيّامٌ مَعَهُ” للرِّوائِيَّةِ كوليت خوري.
– دَعيها يا سّلْمّى في الْحَقيبَة لِنَقْرَأَها لَيلَةَ زَفافِنا.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إغلاق