مكتبة الأدب العربي و العالمي

اسألوه عن “مجمع اللذات”… غرام ابن الرومي بالأطعمة الذي أدى إلى موته

لا يُمكن النظر إلى التجربة الشعرية لابن الرومي دون النظر إلى إنتاجاته المختلفة التي وصف فيها الطعام العباسي، والتي شكّلت أصنافه المتنوعة أحد أبرز ملامح الرفاهية العباسية التي لم يعهدها العربُ قبل ذلك.

تقول الباحثة هويدا الطريفي في أطروحتها “ملامح الحياة الاجتماعية في العصر العباسي من خلال شعر ابن الرومي”، إن طعام العرب قبل الإسلام اقتصر على الألبان وما يُستخرج منها كالزبد والسمن والجبن، وعلى التمر واللحوم وخبز الشعير، التي كانوا يأكلونها في أبسط طريقة ممكنة، كما كانت أكثر لحومهم وألبانهم من الحيوانات التي تعيش حولهم وأشهرها الإبل. ولما بزغت الدولة الإسلامية وتمدّدت حدودها إلى العراق وفارس ومصر ذُهل الناس من كم ألوان الأطعمة الموجودة في تلك البلدان، وكلها كانت أموراً غير معروفة لديهم.

لذا أقبل العرب -سادة المنطقة الجُدد- على تلك اللذة الجديدة التي غابت عنهم وعن أجدادهم لعقودٍ طويلة.

وُلد ابن الرومي في رجب عام 221هـ في بغداد، حملت أصوله هجيناً من الروم (أجداد أبيه) ومن الفرس (أجداد أمه)، وهو ما عبّر عنه شعراً بقوله: “وكيف أُغضي على الدنيّة والـ/فُرس خؤولي والروم أعمامي”، أما اسمه غير المتداول على الألسنة فهو علي بن العباس بن جُريج.

عندما وُلِد، كانت بغداد تحت حُكم الخليفة المعتصم (شقيق المأمون، وابن هارون الرشيد)، ومن بعده جاء المتوكل ثم المعتضد، حتى أتمّوا تسعة خلفاء عباسيين عاصرهم ابن الرومي، لم يتّصل مباشرةً بأحدٍ منهم إلا الخليفة المعتضد، بعدما ظلّت علاقاته محصورة في كبار القادة والوزراء مثل آل طاهر وآل وهب وآل المنجم وآل المدبر وغيرهم من أهل النفوذ في العصر العباسي.

وكما يقول ياسر الطيب في بحثه “ألوان البديع في شعر ابن الرومي”، فإن هذا العصر اتسم باضطرابٍ شديد، بعدما دخل الأتراك كعنصر قوة جديد على المجتمع بعد أن استقدم الخليفة المعتصم عشرات الآلاف منهم ليكونوا جنوداً له حتى يُحدثوا التوازن المطلوب في دولته مع العرب والفرس اللذين لم يكفّا عن التطاحن على مقاليد الحُكم والنفوذ.

نفوذ الجنود الأتراك وسيطرتهم التامة على بغداد أضعفا من الدولة ومن هيبتها في أعين الناس، وكما يقول محمود شاكر: “بقي الخليفة اسماً وصورة في قصره، ليس عليه سوى التوقيع على التعليمات في كثيرٍ من الأحيان أو إصدار الأوامر حسب رأي القادة”، وبلغ بهم تجبُّر السُلطة حدّاً بإقدامهم على قتل الخليفة المتوكل وتعيين ابنه المنتصر بدلاً منه لأول مرة في التاريخ العباسي.

لا يُمكن النظر إلى التجربة الشعرية لابن الرومي دون النظر إلى إنتاجاته المختلفة التي وصف فيها الطعام العباسي، والتي شكّلت أصنافه المتنوعة أحد أبرز ملامح الرفاهية العباسية التي لم يعهدها العربُ قبل ذلك

في رحاب ذلك الضعف والتصارع نمت العديد من الفتن التي استشعرت الضعف والفساد في بغداد، فجاهرت بالعداء ضد العباسيين مثل القرامطة الذين هدّدوا طُرق الحجيج، وروّعوا مكة والمدينة، والزنج الذين خرّبوا البصرة. هذه الاضطرابات المتتالية عصفت بحياة الناس، وجعلت قِلةً منهم تعيش في نعيم، أما الأغلب فعاشوا في ضنكٍ وبؤس. وكل هذه الأمور خلّفت آثارها البالغة على شعر ابن الرومي.

ابن الرومي وطعام العباسيين… حالة خاصة

لولا شعر ابن الرومي لغابت عنا الكثير من أسماء الأكلات العباسية، فوجبات مثل “السِّكباج” (مرق يُعمل من اللحم والخلّ)، و”الطباهج” (لحم مقلي أشبه بالكباب)، و”الشبّوط” (أحد أنواع السمك غالية الثمن)، و”الجرذق” (نوع من الخبز)، والفالوذج (إحدى أنواع الحلوى الفارسية) خلّدها في جنبات شعره الذي اعتنى بكل شاردة وواردة في تفاصيل حياة العباسيين.

يقول ابن الرومي: “واطبُخَنْ لي اللبنَ الرا/ئبَ لوناً بلبُونِه… ومن السّكباج فاطبخ/ليَ ثوراً بقرونِه”، كما أنشد أيضاً: “طباهجة كأعراف الديوك/تروقُ العين من شرط الملوك”، وكذلك: “من عهدُك بالكرخِ/ وبالشَّبّوطِ والفرخِ”، وغيرها من أبياته الشعرية المبثوثة في قصائده التي نقلت لنا جانباً مخفياً من طبيعة حياة العباسيين وشكل الحضارة العربية في ذلك الوقت.

يقول إيليا الحاوي في كتابه ابن الرومي: فنّه ونفسيته من خلال شِعره (1959)، إن ابن الرومي مثّل حالة شعرية خاصة مع الأطعمة، ضارباً على ذلك بمثل قوله عن العنب: “له مذاقُ العسل المشورِ/ونكهة المسك مع الكافورِ”. هنا يُشبّه ابن الرومي الأكل بطعمٍ لم يمسسه بشر وهو رائحة الكافور التي لم يُقّدمها باعتبارها شيئاً يُشَمُّ ولكن طُعماً يستشعره الفم. هذا التفرُّد -بحسب إيليا- نابعٌ من تجربة ابن الرومي الشعرية الرهيفة وحياته القاسية في أغلب أحيانها، فإحساس الجوع الذي كثيراً ما لازمه كان يضيء في ذهنه تلك التشبيهات الغريبة.

إن طعام العرب قبل الإسلام اقتصر على الألبان وما يُستخرج منها، وعلى التمر واللحوم. ولما تمدّدت الدولة الإسلامية إلى العراق وفارس ومصر ذُهل الناس من كم ألوان الأطعمة الموجودة في تلك البلدان. لذا أقبل العرب -سادة المنطقة الجُدد- على تلك اللذة التي غابت عنهم وعن أجدادهم

وهو ما نراه كذلك حينما يأكل الموز، فيقول عنه: “للموز إحسانٌ بلا ذنوب/ليس بممدودٍ ولا محسوب… يكادُ من موقعه المحبوب/يدفع البلع إلى القلوب”. بهذه المعاني كان ابن الرومي يستقبل الأطعمة في قلبه، وتتلذّذ نفسه برائحتها وبكل تفاصيل طعامها، هنا يُصبح العنب في طعم المسك مع الكافور، ونكهة الموز كالحياة المُتجاوَز عن سيئاتها.

وربما لعبت حياة الفقر والضنك التي عاشها ابن الرومي دوراً في حالة الاحتفاء التي نجدها في شعره إزاء كل وجبة طعامٍ مغذية، وكأنما قصد أن ينقل لنا بشكلٍ مباشر كيف عاش حياته محروماً من الطعام اللذيذ، حتى باتت كل فرخة مشوية توضع أمامه في صحنٍ حدثٌ يستحقُّ أن تُتلى فيه القصائد الطِوال.

وهو ما يمكن استشفافه من خلال رغبة ابن الرومي في التعبير عن انتشار الفقر في الدولة العباسية. حينها لم يجد مُعبِّراً عنها إلا عبر “الحالة الطعامية”، فقال: “أحسن ما كان الدقيق موقعا/من رجلٍ أفلس حتى أدقعا… وأصبح القوم البطان جوّعا/وخشي الجائع ألا يشبعا”، وهكذا اعتبر ابن الرومي أن الطعام هو خير وسيلة للحديث عن أحوال الناس وحيواتهم بكافة تفاصيلها.

يقول عمر فروخ في كتابه ابن الرومي (1949)، إنه بينما اهتمَّ أغلب الشعراء بالحديث عن أغراض الحياة السامية مثل الشجاعة والكرم والنعيم والترف والحرب والقصور، فإن ابن الرومي اهتمَّ بوصف ألوانٍ من البيئة الاجتماعية للناس من خلال اهتمامه بالحديث عن الطعام، وكأنه اعتبرها الزاوية الأمثل للتعبير عن الفقراء، لذا اتسع شِعره لوصف قالي الزلابية وصانع الرِقاق (الخبز) دون أن ينسى أبداً الإشارة إلى البؤس الذي تعانيه أمثال تلك الطوائف.

لولا شعر ابن الرومي لغابت عنا الكثير من أسماء الأكلات العباسية، فوجبات مثل “السِّكباج” (مرق يُعمل من اللحم والخلّ)، و”الطباهج” (لحم مقلي أشبه بالكباب)، و”الشبّوط” (أحد أنواع السمك غالية الثمن)، و”الجرذق” (نوع من الخبز)، خلّدها في شعره الذي اعتنى بكل تفاصيل حياة العباسيين

فيما يُضيف إيليا الحاوي في كتابه ابن الرومي: فنّه ونقسيته من خلال شِعره، أنه في بعض الأحيان اشتمل الوصف في شِعره على حرارة ويقين، فلا يعود نسخاً للواقع، بل يفيض فيضاً من أعماق الرؤيا والذهول، فكأنما هو شاعر رومانتيكي تلاشت ذاته أو انحلّت بالطبيعة والوجود.

أقدم ابن الرومي على هذا الفن الفريد لأنه كان أكثر الشعراء “حُباً للحياة” على حد تعبير العقاد في كتابه ابن الرومي(1931) الذي اعتبر فيه أن ابن الرومي كان من مُدمني الدنيا، وأنه كان يعبد الحياة عبادةً لا يبتغي عليها أجراً غير ما يبتغيه خُلّص العابدين، لذا اعتنى بالحديث عن زخارف الدنيا بكل تفاصيلها، أما الموت فلم يكن له مكان في شعره إلا عند الإعراب عن الخوف منه والتفكير فيه.

مجمع اللذات… اسألوا أنعت النعات

ومع كثرة أبيات ابن الرومي الشعرية التي تغنّى فيها بأوصاف الطعام، تبقى قصيدته “يا سائلي عن مجمع اللذات” هي عمله الأبرز في هذا الشأن بعدما جمعت بين براعة الوصف والتصوير، حتى يُخيّل لنا ونحن نقرأها أننا نجلس بجوار ابن الرومي نشاركه غداءه ونتناول معه الدجاجة المشوية التي أسهب في وصفها، إذ يقول فيها: “من لحم فروجٍ ولحم فَرخِ/يدورُ جوذابهما بالنَفْخِ… واجعل عليها أسطُراً من لوزِ/معارضات أسطراً من جَوزِ”.

يقول المؤرخ التونسي إبراهيم شبوح في المقدمة التي وضعها لكتاب الطبيخ: ما استُخرج من كُتب الطب وألفاظ الطهاة (2012): “لقد تفوّق ابن الرومي في التعبير عن باطن المشاعر الشرهة نحو ما تشتاق إلى التهامه، ويعوزه الفقر عن إدراكه”.

مع كثرة أبيات ابن الرومي الشعرية التي تغنّى فيها بأوصاف الطعام، تبقى قصيدته “يا سائلي عن مجمع اللذات” هي عمله الأبرز في هذا الشأن بعدما جمعت بين براعة الوصف والتصوير، حتى يُخيّل لنا ونحن نقرأها أننا نجلس بجوار ابن الرومي نشاركه غداءه

ويضيف شبوح: “في قصيدته الشهيرة (مجمع اللذات) لا ينسى فيها إلى جانب بيانه التقرير ودِقة نعته، أن يعبّر عن شراهته أبرعَ تعبير وهو ما اعترف به على لسانه حينما لقّب نفسه في القصيدة بـ(أنعت النُعّات) معتبراً نفسه الخبير الأول الذي يجب أن يُسأل عن الطعام الذي كنّاه بـ(مجمّع اللذات)، إذ يفتتح عمله بقوله: “يا سائلي عنْ مجمع اللذّاتِ/سألتَ عنه أَنْعَتَ النُّعاتِ”.

في هذه القصيدة يتقمّص ابن الرومي شخصية الخبير في صنوف الطعام، ويعلّم السائل ونحن معه خلاصة خبراته في الأكل العباسي، فينقل لنا كيفية إعداد خبز السميد ولحوم الدجاج والبيض، وإضافة المكونات عليها كاللوز والنعناع والزيتون، بما يحقّق للآكلين أعظم متعة ممكنة.

الطعام يكتب نهايته كما كتب شهرته

وكما خلّد ابن الرومي طعام العباسيين في أشعاره، فإن طبقاً من هذا الطعام قاده إلى نهايته، فبعدما تولّى أبو القاسم بن عبيد الله الوزارةَ في عهد الخليفة المعتضد بالله عام 293هـ، اشتهر الوزير الجديد بفساده المالي وسفكه للدماء. لم يكن ابن الرومي بمعزلٍ عن ذلك، فالشاعر الشهير اشتهر بسلاطة لسانه وتبدُّل أحواله على الناس كلما تغيّر مزاجه.

خاف الوزير أبو القاسم أن يهجوه ابن الرومي، فأمر بدسِّ السُم له في طبق “الخُشكنانجة” (أحد أنوع الحلوى) -في رواية أخرى كان الطعام هو “اللوزينج” (وهي حلوى تُصنّع من اللوز وتقدّم في كأس)-. لم يفلت “اللوزينج” من أشعار ابن الرومي الأكليّة فسبق وأن عبّر عن غرامه به قائلاً: “لا يخطئنّي منك لوزينجٌ/إذا بدا أعجب أو عجبا… لو شاء أن يذهب في صخرةٍ/لسهّل الطيب له مذهبا”، وبالطبع لو كان ابن الرومي يعلم أن ذلك الطعام سيقوده إلى حتفه لما احتفى به بهذا الشكل.

على أيّة حال، فإن ابن الرومي لما أحسّ بالسُم واجَه ابن قاتله الوزير، الذي ما أن رآه حتى قال له: سلّمْ على والدي عبيد الله، فأجابه ابن الرومي: ما طريقي على النار!

بعدها لزم ابن الرومي داره، قضى فيها عدة أيام يعاني من المرض ويعجز عن الأكل حتى مات.

رصيف ٢٢

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إغلاق